الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ }

{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ } عطفٌ على الظرف الأول منصوبٌ بما نصبه من المُضمَر، أو بناصب مستقلٍ معطوفٍ على ناصبه عطفَ القصة على القصة، أي واذكر وقت قولنا لهم، وقيل: بفعل دل عليه الكلام، أي أطاعوا وقت قولِنا الخ، وقد عرفت ما في أمثاله، وتخصيصُ هذا القول بالذكر مع كون مقتضىٰ الظاهرِ إيرادَه على منهاج ما قبله من الأقوال المحكيةِ المتصلةِ به للإيذان بأن ما في حيّزه نعمةٌ جليلةٌ مستقلة حقيقةٌ بالذكر والتذكيرِ على حِيالها، والالتفاتُ إلى التكلم لإظهار الجلالةِ وتربـيةِ المهابة مع ما فيه من تأكيد الاستقلال، وكذا إظهارُ الملائكة في موضع الإضمار، والكلام في اللام وتقديمِها مع مجرورها على المفعول كما مر، وقرىء بضم تاء الملائكة إتباعاً لضم الجيم في قوله تعالى: { ٱسْجُدُواْ لآِدَمَ } كما قرىء بكسر الدال في قوله تعالى:ٱلْحَمْدُ للَّهِ } [الفاتحة، الآية 2. وفي سور أخرى] إتباعاً لكسر اللام وهي لغة ضعيفة، والسجودُ في اللغة الخضوعُ والتطامُن، وفي الشرع وضعُ الجبهة على الأرض على قصد العبادة، فقيل: أُمِروا بالسجود له عليه والسلام على وجه التحية تعظيماً له واعترافاً بفضله وأداءً لحق التعليم واعتذاراً عما وقع منهم في شأنه، وقيل: أمروا بالسجود له تعالى وإنما كان آدمُ قِبلةً لسجودهم تفخيماً لشأنه أو سبباً لوجوبه، فكأنه تعالى لما بَرَأه أُنموذَجاً للمُبدَعات كلِّها ونسخةً منطويةً على تعلق العالم الروحاني بالعالم الجُسماني وامتزاجِهما على نمط بديعٍ أمرهم بالسجود له تعالى لما عاينوا من عظيم قدرتِه، فاللام فيه كما في قول حسانَ رضي الله عنه:
أليس أولَ من صلَّى لقِبلتكم   وأعرفَ الناسِ بالقرآنِ والسننِ
أو في قوله تعالى:أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [الإسراء، الآية 78] والأولُ هو الأظهر، وقوله عز وجل: { فَسَجَدُواْ } عطف على قلنا، والفاء لإفادة مسارعتِهم إلى الامتثال وعدمِ تلعثُمِهم في ذلك، رُوي عن وهْب أن أولَ من سجد جبريلُ ثم ميكائيلُ ثم إسرافيلُ ثم عزرائيلُ ثم سائرُ الملائكة عليهم السلام وقوله تعالى: { إِلاَّ إِبْلِيسَ } استثناءٌ متصل لما أنه كان جنّياً مفرَداً مغموراً بألوف من الملائكة متصفاً بصفاتهم فغَلبوا عليه في فسجدوا، ثم استثني استثناءَ واحدٍ منهم أو لأن من الملائكة جنساً يتوالدون يقال لهم الجنُّ كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو منهم، أو لأن الجن أيضاً كانوا مأمورين بالسجود له لكن استُغني بذكر الملائكة عن ذكرهم. أو منقطعٌ: وهواسمٌ أعجميٌ ولذلك لم ينصرِف ومن جعله مشتقاً من الإبلاس وهو إلباس قال: إنه مُشبَّهٌ بالعجمة حيث لم يُسمَّ به أحدٌ فكان كالاسم الأعجميّ.

واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية الكريمةُ والتي في سورة الأعراف من قوله تعالى:ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ } [الأعراف، الآية 11]، والتي في سورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه من قوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4