الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } بـيان لأمرٍ آخرَ من جنس الأمورِ المتقدمةِ المؤكدةِ للإنكار والاستبعادِ، فإن خلقَ آدمَ عليه السلام وما خصّه به من الكرامات السنية المحْكية من أجل النعم الداعيةِ لذريته إلى الشكر والإيمان الناهيةِ عن الكفرِ والعصيان، وتقريرٌ لمضمون ما قبلَه من قوله تعالى:خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلأرْضِ جَمِيعاً } [البقرة، الآية 29] وتوضيحٌ لكيفية التصرفِ والانتفاعِ بما فيها، وتلوينُ الخطاب بتوجيهه إلى النبـي صلى الله عليه وسلم خاصةً للإيذان بأن فحوى الكلامِ ليس مما يُهتدىٰ إليه بأدلة العقلِ كالأمور المشاهدة التي نبه عليها الكفَرَةَ بطريق الخطاب، بل إنما طريقُه الوحيُ الخاصُّ به عليه السلام، وفي التعرض لعنوان الربوبـية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام من الإنباء عن تشريفه عليه السلام ما لا يخفىٰ، وإذْ ظرفٌ موضوعٌ لزمانِ نسبةٍ ماضيةٍ وقعَ فيه نسبةٌ أخرى مثلها، كما أن إذا موضوعٌ لزمانِ نسبةٍ مستقبلةٍ يقع فيه أخرى مثلُها، ولذلك يجب إضافتُهما إلى الجمل، وانتصابُه بمضمر صرح في قوله عز وجل:وَٱذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } [الأعراف، الآية 86] وقوله تعالى:وَٱذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ } [الأعراف، الآية 74] وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرِها، لما أن إيجابَ ذكر الوقتِ إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني، ولأن الوقتَ مشتمِلٌ عليها، فإذا استُحضِر كانت حاضرةً بتفاصيلها، كأنها مشاهَدةٌ عِياناً، وقيل: ليس انتصابُه على المفعولية، بل على تأويل اذكُرِ الحادث فيه بحذف المظروفِ وإقامةِ الظرفِ مُقامَه.

وأياً ما كان فهو معطوفٌ على مضمر آخرَ ينسحب عليه الكلام كأنه قيل له عليه السلام غِبَّ ما أوحيَ إليه ما خوطب به الكفرةُ من الوحي الناطقِ بتفاصيل الأمورِ السابقةِ الزاجرة عن الكفر به تعالى: ذكِّرهم بذلك واذكُرْ لهم هذه النعمةَ ليتنبهوا بذلك لبُطلان ما هم عليه وينتهوا عنه، وأما ما قيل من أن المقدَّرَ هو اشكُر النعمةَ في خلق السمواتِ والأرض أو تدبَّرْ ذلك فغيرُ سديدٍ ضرورةَ أن مقتضىٰ الكلام تذكيرُ المخاطبـين بمواجب الشكرِ وتنبـيهُهم على ما يقتضيه، وأين ذاك من مَقامه الجليلِ صلى الله عليه وسلم؟ وقيل: انتصابُه بقوله تعالى: قالوا، ويأباه أنه يقتضي أن يكون هو المقصودَ بالذات دون سائرِ القصة، وقيل: بما سبق من قوله تعالى:وَبَشّرِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [البقرة، الآية 25. وسورة يونس، الآية 2]، ولا يخفى بُعدُه، وقيل: بمضمرٍ دل عليه مضمونُ الآية المتقدمة مثل وبدأ خلقَكم إذ قال الخ... ولا ريب في أنه لا فائدةَ في تقيـيد بدءِ الخلقِ بذلك الوقت، وقيل: بخلقكم أو بأحياكم مضمراً، وفيه ما فيه، وقيل: إذْ زائدة، ويْعزى ذلك إلى أبـي عبـيد ومَعْمَر، وقيل: إنه بمعنى قد، واللامُ في قوله عز قائلاً: { لِلْمَلَـٰئِكَةِ } للتبليغ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور في هذا الباب مطَّرِدٌ لما في المقول من الطول غالباً مع ما فيه من الاهتمام بما قُدِّم والتشويقِ إلى ما أُخِّر كما مر مراراً، والملائكةُ جمعُ ملك باعتبار أصلِه الذي هو مَلأك على أن الهمزة مزيدة كالشمائل في جمع شمأل، والتاء لتأكيد تأنيثِ الجماعة، واشتقاقُه من مَلَك لما فيه من معنى الشدة والقوة، وقيل: على أنه مقلوبٌ من مأْلَكٍ، من الألوكة وهي الرسالة أي موضعَ الرسالة أو مرسلٌ على أنه مصدرٌ بمعنى المفعول، فإنهم وسائطُ بـين الله تعالى وبـين الناسِ فهم رسلُه عز وجل، أو بمنزلة رسلِه عليهم السلام، واختلفت العقلاءُ في حقيقتهم بعد اتفاقِهم على أنها ذواتٌ موجودةٌ قائمةٌ بأنفسها.

السابقالتالي
2 3 4 5 6