الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }

{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } إما موصولٌ بالمتقين، ومحلُّه الجرُّ على أنه صفةٌ مقيِّدةٌ له إن فُسّر التقوى بترك المعاصي فقط، مترتبةٌ عليه ترتّبَ التحلية على التَّخْلية، وموضِّحةٌ إن فُسِّر بما هو المتعارَفُ شرعاً والمتبادَرُ عُرفاً، من فعل الطاعات وتركِ السيئات معاً، لأنها حينئذٍ تكون تفصيلاً لما انطوى عليه اسمُ الموصوف إجمالاً، وذلك لأنها مشتملة على ما هو عمادُ الأعمال وأساسُ الحسنات، من الإيمان والصلاة والصدقة، فإنها أمهاتُ الأعمال النفسانية والعباداتِ البدنية والمالية المستتبِعة لسائر القُرَب الداعيةِ إلى التجنب عن المعاصي غالباً، ألا ترى إلى قوله تعالى:إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ } [العنكبوت، الآية 45] وقوله عليه السلام: " الصلاةُ عمادُ الدين، والزكاةُ قنطرةُ الإسلام " ، أو مادحةً للموصوفين بالتقوى المفسَّرِ بما مر من فعل الطاعات وتركِ السيئات.

وتخصيصُ ما ذكر من الخِصال الثلاثِ بالذكر لإظهار شرفِها وإنافتها على سائر ما انطوى تحت اسمِ التقوى من الحسنات، أو النصبُ على المدح بتقدير أعني أو الرفعُ عليه بتقدير «هم»، وإما مفصولٌ عنه مرفوعٌ بالابتداء خبرُه الجملةُ المصدّرةُ باسم الإشارة كما سيأتي بـيانُه، فالوقفُ على (المتقين) حينئذ وقفٌ تام، لأنه وقف على مستقلٍ، ما بعده أيضاً مستقل، وأما على الوجه الأول فحسنٌ لاستقلال الموقوف عليه، غيرُ تامَ لتعلق ما بعده به وتبعيّته له، أما على تقدير الجر على الوصفية فظاهر، وأما على تقدير النصبِ أو الرفع على المدح فلما تقرَّر من أن المنصوبَ والمرفوعَ مدحاً وإن خرجا عن التبعية لما قبلهما صورةً حيث لم يتبعاه في الإعراب، وبذلك سُمّيا قطعاً لكنهما تابعان له حقيقة، ألا ترى كيف التزموا حذفَ الفعل والمبتدأ في النصب والرفع رَومْاً لتصوير كلَ منهما بصورة متعلِّقٍ من متعلقات ما قبله وتنبـيهاً على شدة الاتصال بـينهما، قال أبو علي: إذا ذُكرت صفاتٌ للمدح وخولف في بعضها الإعرابُ فقد خولف للافتنان، أي للتفنن الموجب لإيقاظ السامع وتحريكه إلى الجِدّ في الإصغاء، فإن تغيـير الكلامِ المَسوقِ لمعنىً من المعاني وصَرْفَه عن سَننه المسلوكِ يُنبىء عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم، ويستجلب مزيدَ رغبةٍ فيه من المخاطب.

إن قيل: لا ريب في أن حال الموصول عند كونه خبراً لمبتدأ محذوف كحاله عند كونه مبتدأ خبرُه (أولئك على هدى) في أنه ينسبك به جملةً اسميةً مفيدة، لاتصاف المتقين بالصفات الفاضلة، ضرورةَ أن كلاًّ من الضمير المحذوف والموصولِ عبارةٌ عن المتقين. وأن كلاًّ من اتصافهم بالإيمان وفروعِه، وإحرازهم للهدى والفلاحِ من النعوت الجليلة، فما السرُّ في أنه جُعل ذلك في الصورة الأولى من توابع المتقين، وعُدَّ الوقفُ غيرَ تام، وفي الثانية مقتطعاً عنه، وعُدَّ الوقفُ تامًّا؟ قلنا: السرُّ في ذلك أن المبتدأ في الصورتين وإن كان عبارة عن المتقين، لكن الخبرَ في الأولى لما كان تفصيلاً لما تضمنه المبتدأ إجمالاً حسبما تحققته معلومُ الثبوت له بلا اشتباه، غيرُ مفيد للسامع سوى فائدةِ التفصيلِ والتوضيح، نُظم ذلك في سلك الصفاتِ مراعاةً لجانب المعنى، وإن سمي قطعاً مراعاة لجانب اللفظ، كيف لا وقد اشتهر في الفن أن الخبر إذا كان معلومَ الانتساب إلى المُخبَر عنه فحقُّه أن يكون وصفاً له، كما أن الوصف إذا لم يكن معلومَ الانتساب إلى الموصوف حقُّه أن يكون خبراً له، حتى قالوا: إن الصفاتِ قبل العلم بها أخبارٌ، والأخبارُ بعد العلم بها صفات.

السابقالتالي
2 3 4