الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَٰـنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ }

وقوله تعالى: { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } جملةٌ مستقلة جيءَ بها إثرَ حكايةِ تلقِّيهم لتكاليفه تعالى بحسن الطاعة إظهاراً لما له تعالى عليهم في ضمن التكليف من محاسنِ آثارِ الفضل والرحمة ابتداءً لا بعد السؤال كما سيجيء، هذا وقد رُوي أنه لما نزل قوله تعالى:وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } [البقرة، الآية 284] الآية، اشتد ذلك على أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأتَوْه ثم برَكوا على الرُكَب فقالوا: أيْ رسولَ الله كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاةُ والصومُ والحج والجهاد وقد أُنزل إليك هذه الآية ولا نُطيقُها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابـين من قبلكم سمِعنا وعصَينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غُفرانَك ربنا وإليك المصير " فقرأها القومُ فأنزل الله عز وجل:آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ } [البقرة، الآية 285] إلى قوله تعالى: { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } فمسؤولهُم الغفرانُ المعلَّق بمشيئته عز وعلا في قوله:فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } [البقرة، الآية 284] ثم أنزل الله تعالى: { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة، الآية: 286] تهويناً للخطب عليهم ببـيانِ أن المرادَ بما في أنفسهم ما عزَموا عليه من السوء خاصة لا ما يعُمُّ الخواطرَ التي لا يُستطاع الاحتراز عنها والتكليفُ إلزامُ ما فيه كُلفةٌ ومشقة، والوُسعُ ما يسَعُ الإنسانَ ولا يَضيقُ عليه أي سُنّتُه تعالى أنه لا يكلِّف نفساً من النفوس إلا ما يتَّسع فيه طَوقُها ويتيسّر عليها دون مدى الطاقةِ والمجهود فضلاً منه تعالى ورحمةً لهذة الأمة كقوله تعالى:يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [البقرة، الآية 185] وقرىء وَسعها بالفتح وهذا يدل على عدم وقوعِ التكليفِ بالمحال لا على امتناعه وقوله تعالى: { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } للترغيب في المحافظة على مواجبِ التكليف والتحذيرِ عن الإخلال بها ببـيان أن تكليفَ كل نفسٍ مع مقارنته لنعمة التخفيفِ والتيسير تتضمنُ مراعاتُه منفعةً زائدة، وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبِعُ الإخلالُ به مضرةً تَحيق بها لا بغيرها، فإن اختصاصَ منفعةِ الفعل بفاعله من أقوى الدواعىِ إلى تحصيله، واقتصارَ مضرَّتِه عليه من أشد الزواجر عن مباشرته، أي لها ثوابُ ما كسبت من الخير الذي كُلّفت فعلَه لا لغيرها استقلالاً أو اشتراكاً ضرورةَ شمُول كلمةِ (ما) لكل جزءٍ من أجزاءِ مكسوبها، وعليها لا على غيرها بأحد الطريقين المذكورين عقابُ ما اكتسبت من الشر الذي كُلِّفت تركه، وإيرادُ الاكتسابِ في جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشىءٍ من اعتناء النفسِ بتحصيل الشر وسعيها في طلبه { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } شروعٌ في حكاية بقيةِ دعواتِهم إثرَ بـيانِ سرِّ التكليف، أي لا تؤاخِذنا بما صدر عنا من الأمور المؤدية إلى النسيان أو الخطأ من تفريطٍ وقلةِ مبالاة ونحوِهما مما يدخُل تحت التكليف، أو بأنفسهما من حيث ترتّبُهما على ما ذكر، أو مطلقاً إذ لا امتناعَ في المؤاخذة بهما عقلاً، فإن المعاصيَ كالسُّموم فكما أن تناولها ولو سهواً أو خطأً مؤدٍّ إلى الهلاك فتعاطي المعاصي أيضاً لا يبعُد أن يفضِيَ إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة، ووعدُه تعالى بعدمه لا يوجب استحالةَ وقوعه، فإن ذلك من آثار فضلِه ورحمتِه كما ينبىء عنه الرفعُ في قوله عليه السلام:

السابقالتالي
2 3