الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ }

{ آمَنَ لرَّسُولُ } لمّا ذُكر في فاتحة السورة الكريمة أن ما أُنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الشأنِ هدىً للمتّصفين بما فُصِّل هناك من الصفات الفاضلةِ التي من جملتها الإيمانُ به وبما أنزل قبله من الكتب الإلهيةِ، وأنهم حائزون لأثَرَتي الهدى والفلاح من غير تعيـينٍ لهم بخصوصهم، ولا تصريحٍ بتحقق اتصافِهم بها إذ ليس فيما يُذكر في حيز الصلةِ حُكمٌ بالفعل وعُقّب ذلك ببـيان حال من كَفر به من المجاهرين والمنافقين ثم شَرَح في تضاعيفها من فنون الشرائع والأحكام والمواعظِ والحِكَم وأخبارِ الأمم السالفة وغيرِ ذلك ممَّا تقتضي الحكمةُ شرحَه عُيِّن في خاتمتها المتّصفون بها وحُكم باتصافهم بها على طريق الشهادة لهم من جهته عز وجل بكمال الإيمان وحسنِ الطاعةِ، وذكرُه صلى الله عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حقَّ الشهادة الباقية على مر الدهور ألا يخاطَبَ بها المشهودُ له، ولم يتعرض هٰهنا لبـيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حُكيَ عنهم من الدعوات الآتية إيذاناً بأنه أمرٌ محقق غنيٌّ عن التصريح به لا سيما بعدما نُص عليه فيما سلف، وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالة المنبئة عن كونه عليه السلام صاحبَ كتابٍ مجيد وشرع جديد ــ تمهيدٌ لما يعقُبه من قوله تعالى: { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ } ومزيدُ توضيحٍ لاندراجه في الرسل المؤمَنِ بهم عليهم السلام، والمرادُ بما أنزل إليه { مّن رَّبّهِ } إيماناً تفصيلياً متعلّقاً بجميع ما فيه من الشرائع والأحكامِ والقصصِ والمواعظ وأحوالِ الرسل والكتُب، وغير ذلك من حيث إنه منزلٌ منه تعالى، وأما الإيمانُ بحقية أحكامِه وصدقِ أخباره ونحوُ ذلك فمن فروع الإيمان به من الحيثية المذكورة، وفي هذا الإجمال إجلالٌ لمحلِّه عليه الصلاة والسلام وإشعارٌ بأن تعلّقَ إيمانِه بتفاصيلِ ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه من الظهور بحيث لا حاجة إلى ذكره أصلاً وكذا في التعرض لعنوان الربوبـية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تشريفٌ له وتنبـيهٌ على أن إنزاله إليه تربـية وتكميلٌ له عليه السلام.

{ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } أي الفريقُ المعروفون بهذا الاسم فاللاَّم عهدية لا موصولة لإفضائها إلى خلو الكلام عن الجدوى وهو مبتدأ، وقوله عز وجل: { كُلٌّ } مبتدأ ثانٍ، وقوله تعالى: { آمن } خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول، والرابطُ بـينهما الضمير الذي ناب منابَه التنوين، وتوحيدُ الضمير في آمن مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المرادَ بـيانُ إيمانِ كل فردِ منهم من غير اعتبار الاجتماعِ كما اعتُبر ذلك في قوله تعالى:وَكُلٌّ أَتَوْهُ دٰخِرِينَ } [النمل، الآية 87] وتغيـيرُ سبْكِ النظم الكريمِ عما قبلَه لتأكيد الإشعارِ بما بـين إيمانهِ على السلام المبنيِّ على المشاهدة والعِيان وبـين إيمانِهم الناشىءِ عن الحجة والبرهانِ من التفاوت البـيِّن والاختلاف الجليِّ كأنهما متخالفان من كل وجهٍ حتى في هيئة التركيب الدالِّ عليهما، وما فيه من تكرير الإسناد لما في الحُكم بإيمان كلِّ واحدٍ منهم على الوجه الآتي من نوعِ خفاءٍ مُحوِجٍ إلى التقوية والتأكيد، أي كلُّ واحد منهم آمن { بِٱللَّهِ } وحده من غير شريكٍ له في الألوهية والمعبودية { وَمَلَـئِكَتُهُ } أي من حيث إنهم عبادٌ مُكْرمون له تعالى من شأنهم التوسطُ بـينه تعالى وبـين الرسل بإنزال الكتب وإلقاءِ الوحي، فإن مدارَ الإيمان بهم ليس من خصوصيات ذواتِهم في أنفسهم بل هو من إضافتهم إليه تعالى من الحيثية المذكورة كما يلُوح به الترتيبُ في النظم.

السابقالتالي
2 3 4