الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{ يـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } شروعٌ في بـيان حال المُداينة الواقعةِ في تضاعيف المعاوضات الجاريةِ فيما بـينهم ببـيع السلعِ بالنقود بعد بـيانِ حال الربا، أي إذا داين بعضُكم بعضاً وعامله نسيئةً معْطِياً أو آخذاً، وفائدةُ ذكرِ الدين دفعُ توهُّمِ كونِ التدايُن بمعنى المُجازاة أو التنبـيهُ على تنوعه إلى الحالِّ والمؤجّل وأنه الباعثُ على الكتابة، وتعيـينُ المرجع للضمير المنصوب المتصل بالأمر { إِلَىٰ أَجَلٍ } متعلقٌ بتداينتم أو بمحذوف وقع صفةً لدَيْنٍ { مُّسَمًّى } بالأيام أو الأشهرُ ونظائرِهما مما يفيد العِلمَ ويرْفَعُ الجهالة لا بالحصاد والدّياس ونحوِهما مما لا يرفعها { فَٱكْتُبُوهُ } أي الدَّين بأجله لأنه أوثقُ وأرفعُ للنزاع، والجمهورُ على استحبابه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المرادَ به السَّلَم وقال: «لما حرم الله الربا أباح في السَّلَف» { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ } بـيان لكيفية الكتابةِ المأمورِ بها وتعيـينٌ لمن يتولاها إثرَ الأمرِ بها إجمالاً، وحذفُ المفعول إما لتعيُّنه أو للقصد إلى إيقاع نفسِ الفعلِ أي ليَفعلِ الكتابةَ، وقوله تعالى: { بَيْنِكُمْ } [البقرة، الآية: 282] للإيذان بأن الكاتبَ ينبغي أن يتوسّط بـين المتداينين ويكتُبَ كلامَهما ولا يكتفيَ بكلام أحدِهما، وقولُه تعالى: { بِٱلْعَدْلِ } متعلق بمحذوف هو صفةٌ لكاتب أي كاتبٌ كائنٌ بالعدل أي وليكن المتصدِّي للكتابة من شأنه أن يكتُبَ بالسوية من غير مَيل إلى أحد الجانبـين لا يزيد ولا ينقُص، وهو أمرٌ للمتداينين باختيار كاتبٍ فقيهٍ ديِّن حتى يجيء كتابُه موثوقاً به معدّلاً بالشرع، ويجوز أن يكون حالاً منه أي ملتبساً بالعدل، وقيل: متعلقٌ بالفعل أي وليكتبْ بالحق { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } أي ولا يمتنعْ أحدٌ من الكُتاب { أَن يَكْتُبَ } كتابَ الدين { كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } على طريقة ما علّمه من كَتْبه الوثائقَ أو كما بـينه بقوله تعالى: { بِٱلْعَدْلِ } أو لا يأب أن ينفعَ الناسَ بكتابته كما نفعه الله تعالى بتعليمِ الكتابة كقوله تعالى:وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } [القصص، الآية: 77] { فَلْيَكْتُبْ } تلك الكتابةَ المُعْلمة، أَمَر بها بعد النهي عن إبائها تأكيداً لها، ويجوز أن تتعلقَ الكافُ بالأمر على أن يكون النهيُ عن الامتناع منها مطلقةً ثم الأمرُ بها مقيدة.

{ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } الإملال هو الإملاءُ أي وليكن المُمْلي مَنْ عليه الحقُّ لأنه المشهودُ عليه فلا بد أن يكون هو المُقِرَّ { وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } جُمع ما بـين الاسمِ الجليلِ والنعتِ الجميل للمبالغة في التحذير، أي وليتقِ المُمْلي دون الكاتِب كما قيل لقوله تعالى: { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ } أي من الحق الذي يْمليه على الكاتب { شَيْئاً } فإنه الذي يُتوقع منه البخسُ خاصة، وأما الكاتبُ فيُتوقع منه الزيادةُ كما يُتوقع منه النقصُ، فلو أُريد نهيُه لنَهىٰ عن كليهما، وقد فَعل ذلك حيث أمَر بالعدل، وإنما شُدِّد في تكليف المُمْلي حيث جُمع فيه بـين الأمر بالاتقاء والنهي عن البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهيِّ عنه، فإن الإنسان مجبولٌ على دفع الضرر عن نفسه وتخفيفِ ما في ذمته بما أمكن { فَإن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } صَرَّح بذلك في موضع الإضمار لزيادة الكشفِ والبـيان لا لأن الأمرَ والنهيَ لغيره { سَفِيهًا } ناقصَ العقلِ مبذّراً مجازفاً { أَوْ ضَعِيفًا } صبـياً أو شيخاً مختلاً { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } أي غيرَ مستطيعٍ للإملاء بنفسه لخرَسٍ أو عَيَ أو جهلٍ أو غير ذلك من العوارض { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } أي الذي يلي أمرَه ويقوم مقامه من قيِّم أو وكيل أو مترجم { بِٱلْعَدْلِ } أي من غير نقص ولا زيادة.

السابقالتالي
2 3