الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَٰواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَٰواْ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَٰواْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَٱنْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى ٱللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ } أي يأخُذونه والتعبـيرُ عنه بالأكل لما أنه معظمُ ما قُصد به ولشيوعه في المطعومات مع ما فيه من زيادة تشنيعٍ لهم وهو الزيادةُ في المقدار أو في الأجل حسبما فُصّل في كتب الفقه، وإنما كتب بالواو كالصلوة على لغة من يفخّم في أمثالها وزيدت الألفُ تشبـيهاً بواو الجمع { لاَ يَقُومُونَ } أي من قبورهم إذا بُعثوا { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ } أي إلا قياماً كقيام المصروعِ، وهو وارد على ما يزعُمون أن الشيطانَ يخبِط الإنسانَ فيُصرعُ، والخبطُ: الضربُ بغير استواءٍ كخَبْط العشواء { مِنَ ٱلْمَسّ } أي الجنون، وهذا أيضاً من زَعَماتهم أن الجِنيَّ يمَسّه فيختلِط عقلُه فلذلك يقال: جُنَّ الرجل، وهو متعلّق بما قبله من الفعل المنفي أي لا يقومون من المس الذي بهم بسبب أكلِهم الربا، أو بـيقوم أو بـيتخبّطه فيكون نهوضُهم وسقوطُهم كالمصروعين لا لاختلال عقولِهم بل لأن الله تعالى أربىٰ في بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم فصاروا مُخْبَلين ينهضون ويسقطون، تلك سيماهم يُعرَفون بها عند أهل الموقف { ذٰلِكَ } إشارة إلى ما ذكر من حالهم وما في اسم الإشارةِ من معنى البعد للإيذان بفظاعة المشارِ إليه { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَوٰاْ } أي ذلك العقابُ بسبب أنهم نَظَموا الربا والبـيعَ في سلك واحدٍ لإفضائهما إلى الرِّبح فاستحلّوه استحلالَه وقالوا: يجوز بـيعُ درهمٍ بدرهمين كما يجوز بـيعُ ما قيمتُه درهمٌ بدرهمين بل جعلوا الربا أصلاً في الحِل وقاسوا به البـيعَ مع وضوح الفرق بـينهما فإن أحدَ الدرهمين في الأول ضائعٌ حتماً وفي الثاني منجبرٌ بمِساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقّع رَواجها.

{ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرّبَوٰاْ } إنكارٌ من جهة الله تعالى لتسويتهم وإبطالٌ للقياس لوقوعه في مقابلة النص، مع ما أشير إليه من عدم الاشتراك في المناطِ، والجملةُ ابتدائيةٌ لا محلَّ لها من الإعراب { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ } أي فمن بلغه وعظٌ وزجرٌ كالنهي عن الربا وقرىء جاءتْه { مّن رَّبّهِ } متعلق بجاءه أو بمحذوف وقعَ صفةً لموعظةٌ، والتعرضُ لعنوان الربوبـية مع الإضافة للإشعار بكون مجيءِ الموعظةِ للتربـية { فَٱنتَهَىٰ } عطفٌ على جاءه أي فاتّعظَ بلا تراخٍ وتبِعَ النهيَ { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي ما تقدم أخذُه قبل التحريم ولا يُستردّ منه و { مَا } مرتفعٌ بالظرف إنْ جُعلت (مَنْ) موصولةً وبالابتداء إن جُعلت شرطيةً على رأي سيبويهِ لعدم اعتماد الظرفِ على ما قبله { وَأَمْرُهُ إِلَى ٱللَّهِ } يجازيه على انتهائه إن كان عن قَبول الموعظةِ وصِدْقِ النية وقيل: يَحْكُم في شأنه ولا اعتراضَ لكم عليه { وَمَنْ عَادَ } أي إلى تحليل الربا { فَأُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى { مَنْ عَادَ } [البقرة، الآية 275] والجمعُ باعتبار المعنى كما أن الإفرادَ في عاد باعتبار اللفظ وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعد منزلتِهم في الشر والفساد { أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ } أي ملازموها { هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } ماكثون فيها أبداً والجملةُ مقررة لما قبلها.