الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَٱحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }

{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ } الوُدُّ حبُّ الشيء مع تمنِّيه ولذلك يُستعمل استعمالَهما والهمزةُ لإنكار الوقوع كما في قوله: أأضرب أبـي؟ لا لإنكار الواقع كما في قولك: أتضرب أباك؟ على أن مناطَ الإنكارِ ليس جميعَ ما تعلّق به الوُدّ بل إنما هو إصابةُ الإعصارِ وما يتبعُها من الاحتراق { أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } وقرىء جناتٌ { مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } أي كائنةٍ منهما على أن يكون الأصلُ والركنُ فيها هذين الجنسينِ الشريفينِ الجامعين لفنون المنافع والباقي من المستتبِعات لا على ألا يكونَ فيها غيرُهما كما ستعرِفه، والجنَّةُ تطلق على الأشجار الملتفة المتكاتفة قال زهير: [البسيط]
كأن عينيَّ في غربـيِّ مفتلة   من النواضِحِ تسقي جنةً سحقاً
وعلى الأرض المشتملةِ، عليها والأولُ هو الأنسبُ بقوله عز وجل: { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلانْهَـٰرُ } إذ على الثاني لا بد من تقدير مضافٍ أي من تحت أشجارها وكذا لا بد من جعل إسناد الاحتراق إليها فيما سيأتي مجازياً، والجملةُ في محل الرفع على أنها صفةُ جنةٍ كما أن قوله تعالى: { مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } [البقرة، الآية: 266] كذلك أوفى محل النصب على أنها حالٌ منها لأنها موصوفة { لَهُ فِيهَا مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ } الظرفُ الأولُ خبرٌ والثاني حالٌ والثالثُ مبتدأ أي صفة للمبتدأ قائمة مَقامه أي له رزقٌ من كل الثمرات كما في قوله تعالى:وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات، الآية 164] أي وما منا أحد إلا له الخ وليس المرادُ بالثمرات العمومَ بل إنما هو التكثيرُ كما في قوله تعالى:وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ } [النمل، الآية 23] { وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ } أي كِبَرُ السنِّ الذي هو مَظِنَّةُ شدَّةِ الحاجة إلى منافعها ومئنة كمالِ العجز عن تدارُك أسبابِ المعاش، والواو حالية أي وقد أصابه الكبر { وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاءُ } حالٌ من الضمير في أصابه أي أصابه الكِبَرُ والحال أن له ذريةٌ صِغاراً لا يقدرون على الكسب وترتيب مبادىء المعاش وقرىء ضعاف { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } أي ريحٌ عاصفةٌ تستدير في الأرض ثم تنعكس منها ساطعةً إلى السماء على هيئة العَمود { فِيهِ نَارٌ } شديدةٌ { فَٱحْتَرَقَتْ } عطفٌ على (فأصابها) وهذا كما ترى تمثيلٌ لحال من يعمل أعمالَ البرِّ والحسناتِ ويضُمُّ إليها ما يُحبِطُها من القوادح ثم يجدُها يوم القيامة عند كمال حاجته إلى ثوابها هباءً منثوراً بها في التحسّر والتأسّف عليها { كَذٰلِكَ } توحيدُ الكاف مع كون المخاطَب جمعاً قد مر وجهُه مراراً أي مثلَ ذلك البـيان الواضحِ الجاري في الظهور مجرىٰ الأمورِ المحسوسة { يُبيّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَـٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } كي تتفكروا فيها وتعتبروا بما فيها من العِبَر وتعملوا بموجبها.