الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } * { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

{ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي في وجوه الخيرِ من الواجب والنفل { كَمَثَلِ حَبَّةٍ } لا بد من تقديرِ مضافٍ في أحد الجانبـين أي مَثلُ نفقتِهم كمثلِ حبةً أو مَثلُهم كمَثلِ باذرِ حبة { أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } أي خرَّجت ساقاً تشعّب منها سبعُ شُعبٍ لكل واحدة منها سنبلة { فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ } كما يشاهَد ذلك في الذُرة والدخن في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك، وإسنادُ الإنباتِ إلى الحبة مجازيٌ كإسناده إلى الأرض والربـيع، وهذا التمثيلُ تصويرٌ للأضعاف كأنها حاضرةٌ بـين يدَي الناظر { وَٱللَّهُ يُضَـٰعِفُ } تلك المضاعفةَ أو فوقها إلى ما شاء الله تعالى { لِمَن يَشَاء } أن يضاعِفَ له بفضله على حسب حالِ المنفِق من إخلاصه وتعبِه ولذلك تفاوتت مراتبُ الأعمال في مقادير الثواب { وَٱللَّهُ وٰسِعٌ } لا يَضيقُ عليه ما يتفضّل به من الزيادة { عَلِيمٌ } بنية المنفقِ ومقدارِ إنفاقِه وكيفيةِ تحصيلِ ما أنفقه { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } جملةٌ مبتدأةٌ جيء بها لبـيان كيفيةِ الإنفاق الذي بُـيِّن فضلُه بالتمثيل المذكور { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ } أي ما أنفقوه أو إنفاقَهم { مَنّا وَلا أَذًى } المن أن يَعتدَّ على مَنْ أحسن إليه بإحسانه ويُريَه أنه أوجبُ بذلك حقاً والأذى أن يتطاولَ عليه بسبب إنعامه عليه وإنما قُدم المن لكثرة وقوعِه، وتوسيطُ كلمة { لا } للدَلالة على شمول النفي لإتباع كل واحدٍ منهما و { ثُمَّ } لإظهار علوِّ رتبة المعطوف، قيل: نزلت في عثمان رضي الله عنه حين جهز جيش العُسرة بألفِ بعير بأقتابها وأحلاسها وعبدِ الرحمٰن بنِ عوف رضي الله عنه حين أتى النبـيَّ صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقةً ولم يكَدْ يخطُر ببالها شيءٌ من المن أو الأذى { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } أي حسبما وُعدَ لهم في ضمن التمثيل، وهو جملةٌ من مبتدأ وخبر وقعت خبراً عن الموصول، وفي تكرير الإسناد وتقيـيدِ الأجر بقوله: { عِندَ رَبّهِمْ } من التأكيد والتشريفِ ما لا يخفى، وتخليةُ الخبر عن الفاء المفيدة لسببـية ما قبلها لما بعدها للإيذان بأن ترتبَ الأجر على ما ذكر من الإنفاق وتركَ إِتباعِ المن والأذى أمرٌ بـيِّن لا يحتاج إلى التصريح بالسببـية وأما إيهامُ أنهم أهلٌ لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا فيأباه مقامُ الترغيب في الفعل والحث عليه { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } في الدارين من لحوق مكروهٍ من المكاره { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لفوات مطلوبٍ من المطالب قلَّ أو جلَّ، أي لا يعتريهم ما يوجبه لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوفٌ وحزن أصلاً بل يستمرون على النشاط والسرور، كيف لا واستشعارُ الخوف والخشية استعظاماً لجلال الله وهيبته واستقصاراً للجِد والسعي في إقامة حقوقِ العبودية من خواصِّ الخاصةِ والمقرَّبـين، والمرادُ بـيانُ دوامِ انتفائِهما لا بـيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يوهمه كونُ الخبر في الجملة الثانية مضارعاً عالماً أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيدُ الدوام والاستمرار بحسب المقام.