الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ }

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } شروع في تنزيه ساحةِ التنزيل عن تعلق ريبٍ خاصٍّ اعتراهم من جهة ما وقع فيه من ضرب الأمثال وبـيانٌ لحكمته، وتحقيقٌ للحق إثرَ تنزيهها عما اعتراهم من مطلق الريب بالتحدِّي، وإلقامِ الحجر، وإفحامِ كافة البلغاء من أهل المدَر والوبَر. روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن المنافقين طعَنوا في ضرب الأمثال بالنارِ والظلماتِ والرعدِ والبرق، وقالوا: الله أجلُّ وأعلى من ضرب الأمثال. وروى عطاءٌ رضي الله عنه: أن هٰذا الطعنَ هذا كان من المشركين.

ورُوي عنه أيضاً أنه لما نزل قوله تعالى:يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ } [الحج، الآية 73] الآية، وقوله تعالى:مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَاء } [العنكبوت، الآية 41] الآية، قالت اليهود: أيُّ قدْرٍ للذباب والعنكبوت حتى يضرِب الله تعالى بهما وجعلوا ذلك ذريعة إلى إنكار كونِه من عند الله تعالى، مع أنه لا يخفى على أحد ممن له تميـيزٌ أنه ليس مما يتصور فيه الترددُ فضلاً عن النكير، بل هو من أوضح أدلةِ كونِه خارجاً عن طَوْق البشر، نازلاً من عند خلاق القُوى والقدَر، كيف لا وإن التمثيل كما مر ليس إلا إبرازاً للمعنى المقصودِ في معرض الأمرِ المشهود، وتحلية المعقولِ بحِلْية المحسوس، وتصويرُ أوابد المعاني بهيئة المأنوس، لاستمالة الوهم واستنزالِه عن معارضتِه للعقل، واستعصائه عليه في إدراك الحقائق الخفية، وفهمِ الدقائق الأبـية، كي يتابعَه فيما يقتضيه ويشايعُه إلى ما يرتضيه، ولذلك شاعت الأمثالُ في الكتب الإلهية والكلمات النبويةِ وذاعت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء، ومن قضية وجوبِ التماثل بـين الممثَّل والممثَّل به في مناط التمثيل تمثيلُ العظيم بالعظيم، والحقير بالحقير، وقد مُثل في الإنجيل غلُّ الصدر بالنُخالة، ومعارضةُ السفهاء بإثارة الزنابـير، وجاء في عبارات البلغاء: أجمعُ مِنْ ذرةٍ، وأجرأ من الذباب، وأسمع من قُراد، وأضعفُ من بعوضة، إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصر.

والحياء تغيُر النفس وانقباضُها عما يُعاب به أو يُذم عليه، يقال: حيـي الرجل وهو حَيِـيٌّ، واشتقاقه من الحياة اشتقاقَ شظِي وحشِي ونسِيَ من الشظي والنسْي والحشي، يقال: شظِي الفرس ونسي وحشي إذا اعتلت منه تلك الأعضاء كأن من يعتريه الحياء تعتل قوتُه الحيوانية وتنتقص، واشتكىٰ بمعناه خلا أنه يتعدى بنفسه وبحرف الجر، يقال: استحيـيتُه واستحيـيتُ منه، والأول لا يتعدى إلا بحرف الجر، وقد يحذف منه إحدى الياءين، ومنه قوله: [الطويل]
ألا يستحي منا الملوك ويتقي   محارمَنا لا يبوء الدمُ بالدم
وقـولُــه: [الطويل]
إذا ما استحَيْنَ الماءَ يعرِضُ نفسه   كَرَعن بسبْتٍ في إناءٍ من الورد
فكما أنه إذا أسند إليه سبحانه بطريق الإيجاب في مثل قوله صلى الله عليه وسلم:

السابقالتالي
2 3 4 5 6