الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{ أَوْ كَٱلَّذِى مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ } استشهادٌ على ما ذكر من ولايته تعالى للمؤمنين وتقريرٌ له معطوفٌ على الموصول السابق، وإيثارُ أو الفارقةِ على الواو الجامعة للاحتراز عن توهّم اتحادِ المستشهد عليه من أول الأمر والكاف إما اسميةٌ كما اختاره قوم جيء بها للتنبـيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارِها فيما ذكر كما في قولك: الفعلُ الماضي مثلُ نصر وإما زائدة كما ارتضاه آخرون، والمعنى أَوَ لَمْ تَرَ إلى مثل الذي أو إلى الذي مرَّ على قرية كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظُلمة الاشتباه إلى نور العِيان والشهود، أي قد رأيت ذلك وشاهدتَه فإذن لا ريب في أن الله وليُّ الذين آمنوا الخ. هذا وأما جعلُ الهمزةِ لمجرد التعجيبِ على أن يكون المعنى في الأول ألم تنظرُ إلى الذي حاجّ الخ أي انظُر إليه وتعجبْ من أمره وفي الثاني أو أرأيتَ مثلَ الذي مرَّ الخ إيذاناً بأن حالَه وما جرىٰ عليه في الغرابة بحيث لا يُرى له مَثَلٌ كما استقر عليه رأي الجمهور فغيرُ خليقٍ بجزالة التنزيلِ وفخامة شأنه الجليل، فتدبر. والمارُّ هو عُزيرُ بنُ شرخيا قاله: قتادةُ والربـيع وعِكْرِمةُ وناجية بن كعب وسليمان بن يزيدَ والضحاك والسدي رضي الله عنهم وقيل: هو أرميا بن حلقيا من سبط هارونَ عليه السلام قاله: وهب وعبـيدُ اللَّه بنُ عمير وقيل: أرميا هو الخَضِرُ بعينه قال مجاهد كان المارُّ رجلاً كافراً بالبعث، وهو بعيد، والقريةُ بـيتُ المقدِس قاله: وهْبٌ وعكرِمة والربـيع، وقيل: هي ديرُ هِرَقل على شط دِجْلةَ وقال الكلبـي: هي ديرُ سابر آباد وقال السدي: هي دير سلما باد والأول هو الأظهر والأشهر.

رُوي أن بني إسرائيلَ لما بالغوا في تعاطي الشرِّ والفسادِ وجاوزوا في العتوِّ والطغيانِ كلَّ حدّ معتادٍ سلط الله تعالى عليهم بُختَ نَصَّر البابليَّ فسار إليهم في ستمائة ألفِ رايةٍ حتى وطِىءَ الشامَ وخرَّب بـيتَ المقدِس وجعل بني إسرائيلَ أثلاثاً ثلثٌ منهم قتلَهم وثلثٌ منهم أسكنهم بالشام وثلثٌ منهم سباهم وكانوا مائةَ ألفِ غلام يافعٍ وغيرِ يافع فقسمهم بـين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل ملك منهم أربعة غِلمة وكان عُزير من جملتهم فلما نجاه الله تعالى منهم بعد حين مرّ بحماره على بـيتَ المقدِس فرآه على أفظع مرأىً وأوحشَ منظرٍ وذلك قوله عز وجل: { وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } أي ساقطة على سقوفها بأن سقطت العروشُ ثم الحيطانُ من خوَى البـيتُ إذا سقط أو من خوَت الأرضُ أي تهدمت والجملة حال من ضمير { مَرَّ } أو من { قَرْيَةٌ } [البقرة، الآية 259] عند من يجوِّز الحالَ من النكرة مطلقاً { قَالَ } أي تلهفاً عليها وتشوقاً إلى عِمارتها مع استشعار اليأس عنها { أنَّى يُحيِى هذه الله } وهي على ما يُرى من الحالة العجيبةِ المباينة للحياة، وتقديمُها على الفاعل للاعتناء بها من حيث أن الاستبعاد ناشىء من جهتها لا من جهة الفاعل وأنّى نُصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى، وعلى الحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف والعامل يُحيـي وأياً ما كان فالمرادُ استبعادُ عمارتها بالبناء والسكان من بقايا أهلها الذين تفرقوا أيديَ سَبَاْ ومن غيرِهم، وإنما عبر عنها بالإحياء الذي هم علَمٌ في البعد عن الوقوع عادةً تهويلاً للخطب وتأكيداً للاستبعاد كما أنه لأجله عبر عن خرابها بالموت حيث قيل: { بَعْدَ مَوْتِهَا } وحيث كان هذا التعبـيرُ معرِباً عن استبعاد الإحياء بعد الموت على أبلغ وجهٍ وآكَدِه أراه الله عز وجل آثِرَ ذي أثيرٍ أبعدَ الأمرين في نفسه ثم في غيره ثم أراه ما استبعده صريحاً مبالغةً في إزاحة ما عسى يختلِجُ في خلَده، وأما حملُ إحيائها على إحياء أهلها فيأباه التعرُّضُ لحال القرية دون حالهم والاقتصارَ على ذكر موتهم دون كونهم تراباً وعظاماً مع كونه أدخلَ في الاستبعاد لشدة مباينتِه للحياة وغايةِ بعدِه عن قَبولها على أنه لم تتعلقْ إرادتُه تعالى بإحيائهم كما تعلقت بعمارتها ومعاينةِ المارِّ لها كما ستحيط به خبراً.

السابقالتالي
2 3 4