الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } * { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ }

{ وَلَمَّا بَرَزُواْ } أي ظهر طالوتُ ومن معه من المؤمنين وصاروا إلى براز من الأرض في موطن الحرب { لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } وشاهدوا ما هم عليه من العَدد والعُدد وأيقنوا أنهم غيرُ مطيقين لهم عادة { قَالُواْ } أي جميعاً عند تقوى قلوب الفريقِ الأولِ منهم بقول الفريق الثاني متضرعين إلى الله تعالى مستعينين به { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } على مقاساة شدائِد الحربِ واقتحامِ مواردِه الصعبةِ الضيقة وفي التوسل بوصف الربوبـية المُنبىء عن التبليغ إلى الكمال وإيثارِ الإفراغِ المعرب عن الكثرة وتنكيرِ الصبر المفصح عن التفخيم من الجزالة ما لا يخفى { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } في مداحض القتالِ ومزالِّ النزال وثباتُ القدم عبارةٌ عن كمال القوةِ والرسوخِ عند المقارعة وعدمِ التزلزل وقت المقاومة لا مجرد التقرّر في حيز واحد { وَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } بقهرهم وهزمِهم، ووضعُ الكافرين في موضع الضمير العائد إلى جالوتَ وجنودِه للإشعار بعِلة النصرِ عليهم، ولقد راعَوْا في الدعاء ترتيباً بديعاً حيث قدموا سؤالَ إفراغِ الصبر الذي هو مِلاكُ الأمر ثم سؤالَ تثبـيتِ القدم المتفرغِ عليه ثم سؤالَ النصرِ الذي هو الغاية القصوى { فَهَزَمُوهُم } أي كسروهم بلا مكث { بِإِذْنِ ٱللَّهِ } بنصره وتأيـيده إجابةً لدعائهم، وإيثارُ هذه الطريقة على طريقة قوله عز وجل:فَـآتَـٰهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا } [آل عمران، الآية 148] الخ للمحافظة على مضمون قولِهم: غلَبتْ فئةً كثيرةً بإذن الله { وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ } كان إيشىٰ أبو داودَ في عسكر طالوتَ معه ستةٌ من بنيه وكان داودُ عليه السلام سابعَهم وكان صغيراً يَرعى الغنم فأوحى الله تعالى إلى نبـيهم أنه الذي يقتل جالوتَ فطلبه من أبـيه فجاء، وقد مر في طريقه بثلاثة أحجار قال له كل منها: احمِلنا فإنك بنا تقتُل جالوتَ فحملها في مِخْلاته وقيل: لما أبطأ على أبـيه خبرُ إخوته في المصافِّ أرسل داودُ إليهم ليأتيَه بخبرهم فأتاهم وهم في القراع وقد برز جالوتُ بنفسه إلى البِراز ولا يكاد يبارزه أحدٌ وكان ظلُّه ميلاً فقال داودُ لإخوته: أما فيكم من يخرجُ إلى هذا الأقلفِ فزجروه فتنحّى ناحية أخرى ليس فيها أخوتُه وقد مر به طالوتُ وهو يحرِّض الناسِ على القتال فقال له داودُ: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلفَ؟ قال طالوتُ: أُنكِحُه ابنتي وأعطيه شطرَ مملكتي فبرز له داودُ فرماه بما معه من الأحجار بالمِقلاع فأصابه في صدره فنفذت الأحجارُ منه وقتلت بعده ناساً كثيرين. وقيل: إنما كلمته الأحجارُ عند بروزه لجالوتَ في المعركة فأنجز له طالوتُ ما وعده وقيل: إنه حسده وأخرجه من مملكته ثم ندم على ما صنعه فذهب يطلبه إلى أن قُتل، ومُلِّك داودُ عليه السلام وأعطيَ النبوةَ وذلك قوله تعالى: { وَآتَـٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ } أي مُلكَ بني إسرائيلَ في مشارقِ الأرض المقدسةِ ومغاربِها { وَٱلْحِكْــمَةَ } أي النبوةَ ولم يجتمع في بني إسرائيلَ الملكُ والنبوةُ قبله إلا له بل كان الملكُ في سِبط والنبوة في سبط آخرَ وما اجتمعوا قبله على ملك قط { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء } أي مما يشاء الله تعالى تعليمَه إياه لا مما يشاء داودُ عليه السلام كما قيل لأن معظم ما علمه تعالى إياه مما لا يكاد يخطرُ ببال أحد ولا يقع في أمنية بشرٍ ليتمكنَ من طلبه ومشيئته كالسَّرَد بإِلانةِ الحديد ومنطقِ الطير والدوابِّ ونحو ذلك من الأمور الخفية.

السابقالتالي
2