الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ }

{ وَبَشّرِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي بأنه منزلٌ من عند الله عز وجل، وهو معطوف على الجملة السابقة لكن لا على أن المقصودَ عطفُ نفس الأمرِ حتى يُطلبَ له مَشاكِلٌ يصِحُّ عطفَه عليه، بل على أنه عطفُ قصةِ المؤمنين بالقرآن، ووصفِ ثوابهم، على قصة الكافرين به وكيفيةِ عقابهم، جرياً على السُنة الإلهية من شفْع الترغيب بالترهيب، والوعدِ بالوعيد، وكان تغيـيرُ السبك لتخيـيل كمالِ التباين بـين حالي الفريقين، وقرىء وبُشرِّ على صيغة الفعل مبنياً للمفعول عطفاً على أعِدَّت، فيكونُ استئنافاً، وتعليقُ التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح، لكن لا لذاتهما، فإنهما لا يكافِئان النعمَ السابقة فضلاً من أن يقتضِيا ثواباً فيما يستقبل، بل بجعل الشارعِ، ومقتضىٰ وعدِه وجعل صلتِه فعلاً مفيداً للحدوث بعد إيرادِ الكفارِ بصيغة الفاعل لحثِّ المخاطبـين بالاتقاء على إحداث الإيمان، وتحذيرِهم من الاستمرار على الكفر، والخطابُ للنبـي صلى الله عليه وسلم، وقيل: لكل من يتأتَّى منه التبشير، كما في قوله عليه السلام: " بشر المشّائين إلى المساجد في ظلم الليالي بالنور التام يوم القيامة " فإنه عليه السلام لم يأمُر بذلك واحداً بعينه بل كلَّ أحد ممن يتأتى منه ذلك، وفيه رمزٌ إلى أن الأمر لعِظَمه وفخامة شأنه حقيقٌ بأن يَتولىٰ التبشيرَ به كلُّ من يقدر عليه، والبِشارة الخبرُ السار الذي يظهر به أثر السرور في البشرة، وتباشيرُ الصبح أوائلُ ضوئه { وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } الصالحة كالحسنة في الجريان مَجرى الاسم، وهي كلُّ ما استقام من الأعمال بدليل العقلِ والنقلِ، واللام للجنس، والجمعُ لإفادة أن المرادَ بها جملةٌ من الأعمال الصالحة التي أشير إلى أمهاتها في مطلع السورةِ الكريمة، وطائفةٌ منها متفاوتةٌ حسبَ تفاوتِ حال المكلفين في مواجب التكليف، وفي عطف العملِ على الإيمان دلالةٌ على تغايرهما وإشعارٌ بأن مدار استحقاقِ البشارةِ مجموعُ الأمرين، فإن الإيمان أساسٌ والعملُ الصالح كالبناء عليه ولا غَناءَ بأساس لا بناءَ به.

{ أَنَّ لَهُمْ جَنَّـٰتٍ } منصوبٌ بنزع الخافض وإفضاءِ الفعل إليه، أو مجرور بإضماره مثل: «الله لأفعلنّ» والجنةُ هي المرة من مصدر جَنَّه إذا ستره، تُطلق على النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانِه، قال زهير: [البسيط]
كأنّ عينَيَّ في غَرْبـيِّ مقتلةٍ   من النواضِحِ تسقي جنةً سَحَقا
أي نخلاً طوالاً كأنها لفرطِ تكاثفِها والتفافِها وتغطيتها لما تحتها بالمرة نفسُ السُترة وعلى الأرض ذاتُ الشجر، قال الفراء: الجنة ما فيه النخيل، والفِردوسُ ما فيه الكَرْم، فحقُ المصدر حينئذ أن يكونَ مأخوذاً من الفعل المبني للمفعول وإنما سميت دارَ الثواب بها مع أن فيها ما لا يوصف من الغُرفات والقصور لما أنها مناطُ نعيمها، ومعظمُ ملاذها، وجمعها مع التنكير لأنها سبعٌ على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما: جنةُ الفردوس، وجنة عدْن، وجنة النعيم، ودارُ الخلد، وجنةُ المأوى، ودارُ السلام، وعِلِّيُّون.

السابقالتالي
2 3 4