الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ }

{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد ما بذلتم في السعي غايةَ المجهود، وجاوزتم في الجِد كلَّ حدَ معهود، متشبثين بالذيول، راكبـين متنَ كل صَعْب وذَلول، وإنما لم يصرَّح به إيذاناً بعدم الحاجة إليه، بناءً على كمال ظهورِ تهالُكِهم على ذلك، وإنما أُورد في حيز الشرطِ مُطلقُ الفعل وجُعل مصدرُ المأمورِ به مفعولاً له للإيجاز البديعِ المغني عن التطويل والتكرير، مع سِرٍّ سَرِيٍّ استَقلَّ به المقامَ وهو الإيذان بأن المقصودَ بالتكليف هو إيقاعُ نفسِ الفعل المأمور به، لإظهار عجزِهم عنه لا لتحصيل المفعول أي المأتي به ضرورةَ استحالته، وأن مناطَ الجوابِ في الشرطية أعني الأمر باتقاءِ النار هو عجزُهم عن إيقاعه لا فوتُ حصولِ المفعول، فإن مدلولَ لفظٍ هو أنفُسُ الأفعال الخاصة لازمةً كانت أو متعديةً من غير اعتبارِ تعلقاتِها بمفعولاتها الخاصة، فإذا عُلِّق بفعل خاصٍّ متعدٍّ فإنما يُقصَدُ به إيقاعُ نفس ذلك الفعل وإخراجُه من القوة إلى الفعل، وأما تعلقُه بمفعوله المخصوصِ فهو خارج عن مدلول الفعلِ المطلقِ وإنما يستفاد ذلك من الفعل الخاص، ولذلك تراهم يتوسلون بذلك إلى تجريد الأفعالِ المتعديةِ عن مفعولاتها وتنزيلِها منزلةَ الأفعالِ اللازمة، فيقولون مثلاً: معنى فلانٌ يعطي ويمنع يفعل الإعطاء والمنع، يرشدك إلى هذا قوله تعالى:فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ } [يوسف، الآية 60] بعد قوله تعالى:ٱئْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ } [يوسف، الآية 59] فإنه لما كان مقصودُ يوسفَ عليه السلام بالأمر ومَرْمَى غرضِه بالتكليف منه استحضارَ بنيامين لم يكتفِ في الشرطية الداعية لهم إلى الجِد في الامتثال، والسعْيِ في تحقيق المأمورِ به بالإشارة الإجماليةِ إلى الفعل الذي ورد به الأمر بأن يقول: فإن لم تفعلوا، بل أعاده بعينه متعلقاً بمفعوله تحقيقاً لمطلبه وإعراباً عن مقصِده.

هذا وقد قيل: أُطلق الفعلُ وأريد به الإتيانُ مع ما يتعلق به إما على طريقة التعبـير عن الأسماء الظاهرةِ بالضمائر الراجعةِ إليها حذراً من التكرار، أو على طريقة ذكر اللازمِ وإرادةِ الملزوم، لما بـينهما من التلازمِ المصححِ للانتقال بمعونة قرائنِ الحال فتدبر، وإيثارُ كلمة (إنْ) المفيدةِ للشك على إذا مع تحقق الجزم بعدم فعلِهم مجاراةٌ معهم بحسَب حُسبانهم قبل التجربة أو التهكمُ بهم.

{ وَلَن تَفْعَلُواْ } كلمة لن لنفي المستقبلِ كَلاَ، خلا أن في لن زيادةَ تأكيدٍ وتشديد، وأصلُها عند الخليل (لا أن) وعند الفراء (لا) أُبدلت ألفُها نوناً وعند سيبويه حرفٌ مقتَضَبٌ للمعنى المذكور، وهي إحدى الروايتين عن الخليل والجملة اعتراضٌ بـين جزأي الشرطية مقرِّر لمضمون مُقدَّمِها، ومؤكِّدٌ لإيجاب العمل بتاليها، وهذه معجزة باهرةٌ حيث أُخبر بالغيب الخاصِّ علمُه به عز وجل وقد وقع الأمر كذلك، كيف لا ولو عارضوه بشيءٍ يُدانيه في الجملة لتناقَلَه الرواةُ خلفاً عن سلف.

السابقالتالي
2