الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } خطابٌ للكل { فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ } التعريضُ والتلويحُ إبهامُ المقصودِ بما لم يوضَعْ له حقيقةً ولا مجازاً كقول السائل: جئتُك لأُسلِّم عليك وأصلُه إمالةُ الكلام عن نهجه إلى عُرُضٍ منه أي جانب والكناية هي الدِلالةُ على الشيء بذكر لوازمِه وروادِفه كقولك: طويلُ النِّجاد للطويل وكثيرُ الرماد للمِضْياف { مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِسَاء } الخِطبة بالكسر كالقِعدة والجِلسة ما يفعلُه الخاطبُ من الطلب والاستلطاف بالقول والفعل فقيل: هي مأخوذةٌ من الخَطْب أي الشأن الذي له خطرٌ لما أنها شأن من الشؤون ونوع من الخُطوب وقيل: من الخطاب لأنها نوعُ مخاطبة تجري بـين جانب الرجل وجانب المرأة والمرادُ بالنساء المعتداتُ للوفاة والتعريضُ لخطبتهن أن يقول لها: إنك لجميلةٌ أو صالحةٌ أو نافعة، ومن غرضي أن أتزوَّجَ ونحوُ ذلك مما يوهم أنه يريد نِكاحَها حتى تحبِسَ نفسَها عليه إن رغبت فيه ولا يصرح بالنكاح { أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } أي أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه تصريحاً ولا تعريضاً { عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } ولا تصبِرون على السكوت عنهن وعن إظهار الرغبة فيهن وفيه نوعُ توبـيخٍ لهم على قلة التثبت { وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا } استدراكٌ محذوفٌ دل عليه { سَتَذْكُرُونَهُنَّ } [البقرة، الآية 235] أي فاذكُروهن ولكن لا تواعدوهن نِكاحاً بل اكتفوا بما رُخّص لكم من التعريض، والتعبـيرُ عن النكاح بالسر لأن مُسبَّبَه الذي هو الوطء مما يُسرّ به وإيثارُه على اسمه للإيذان بأنه ينبغي أن يُسرّ به ويكتَم، وحملُه على الوطء ربما يُوهم الرُّخصة في المحظور الذي هو التصريحُ بالنكاح وقيل: انتصابُ سراً على الظرفية أي لا تواعدوهن في السر على أن المراد بذلك المواعدةُ بما يُستهجن وفيه ما فيه { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } استثناءٌ مفرَّغ مما يدل عليه النهي أي لا تواعدوهن مواعدةً ما إلا مواعدةً معروفة غيرَ منْكرةٍ شرعاً وهي ما يكون بطريق التعريض والتلويح أو إلا مواعدةً بقول معروف، أو لا تواعدوهن بشيء من الأشياء إلا بأن تقولوا قولاً معروفاً وقيل: هو استثناءٌ منقطعٌ من (سراً) وهو ضعيف لأدائه إلى جعل التعريض موعوداً وليس كذلك { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ ٱلنّكَاحِ } من عزم الأمرَ إذا قصده قصداً جازماً وحقيقتُه القطع بدليل قوله عليه السلام: " لا صيامَ لمن لم يعزِمِ الصيامَ من الليل " وروي " لمن لم يبـيّت الصيام " والنهي عنه للمبالغة في النهي عن مباشرة عقدِ النكاح أي لا تعزِموا عُقدة النكاح { حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَـٰبُ أَجَلَهُ } أي (تبلُغَ) العدةُ المكتوبة المفروضةُ آخِرَها وقيل: معناه لا تقطعوا عقدة النكاحِ أي لا تُبرِموها ولا تلزَموها ولا تَقَدَّموا عليها، فيكونُ نهياً عن نفس الفعل لا عن قصده.

{ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ } من ذواتِ الصُدور التي من جملتها العزمُ على ما نُهيتم عنه { فَٱحْذَرُوهُ } بالاجتناب عن العزم ابتداءً أو إقلاعاً عنه بعد تحققِه { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } يغفِرُ لمن يُقلعُ عن عزمه خشيةً منه تعالى { حَلِيمٌ } لا يعاجلُكم بالعقوبة فلا تستدلوا بتأخيرها على أن ما نُهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبعُ المؤاخذةَ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ لإدخال الروعة.