الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ }

{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا } شروعٌ في تحقيق أن الكتابَ الكريم الذي من جُملته ما تلي من الآيتين الكريمتين، الناطقتين بوجوب العبادةِ والتوحيدِ منزلٌ من عند الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن ما ذكر فيهما من الآيات التكوينيةِ الدالةِ على ذلك صادرة عنه تعالى لتوضيح اتصافِه بما ذكر في مطلَعِ السورةِ الشريفة من النعوتِ الجليّةِ التي من جملتها نزاهتُه عن أن يعتريَه ريبٌ ما، والتعبـيرُ عن اعتقادهم في حقه بالريب مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر كما يُعرب عنه قوله تعالى: { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } [البقرة، الآية 23 و31 و94 و111. وسورة آل عمران، الآية 93] إما للإيذان بأن أقصىٰ ما يمكن صدورُه عنهم وإن كانوا في غاية ما يكونُ من المكابرة والعِناد هو الارتيابُ في شأنه، وأما الجزمُ المذكورُ فخارجٌ من دائرة الاحتمال، كما أن تنكيرَه وتصديرَه بكلمة الشكِّ للإشعار بأن حقَّه أن يكون ضعيفاً مشكوكَ الوقوع، وإما للتنبـيه على أن جزمَهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمالِ وضوحِ دلائلِ الإعجازِ ونهايةِ قوتِها.

وإنما لم يقل وإن ارتبتم فيما نزلنا الخ، لما أشير إليه فيما سَلَف من المبالغة في تنزيه ساحةِ التنزيلِ عن شائبة وقوعِ الريب فيه حسْبما نطَق به قولُه تعالى:لاَ رَيْبَ فِيهِ } [البقرة، الآية 2] والإشعار بأن ذلك إنْ وقع فمن جهتهم لا من جهته العاليةِ، واعتبارُ استقرارِهم فيه وإحاطتُه بهم لا ينافي اعتبارَ ضعفِه وقِلته، لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوامُ ملابستهم به لا قوتُه وكثرتُه، و(مِن) في مما ابتدائيةٌ متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لريب، وحملُها على السببـية ربما يوهمُ كونَه محلاً للريب في الجملة وحاشاه من ذلك، و(ما) موصولةً كانت أو موصوفةً عبارةٌ عن الكتاب الكريم لا عن القدر المشتركِ بـينه وبـين أبعاضِه، وليس معنى كونِهم في ريب منه ارتيابَهم في استقامة معانيه، وصحةِ أحكامِه، بل في نفس كونِه وحياً منزلاً من عند الله عز وجل، وإيثارُ التنزيلِ المنبىءِ عن التدريج على مطلقِ الإنزالِ لتذكيرِ منشأ ارتيابِهم، وبناءُ التحدي عليه إرخاءٌ للعِنان وتوسيعاً للميدان، فإنهم كانوا اتخذوا نزولَه منجّماً وسيلةً إلى إنكاره، فجُعل ذلك من مبادي الاعتراف به، كأنه قيل: إن ارتبتم في شأن ما نزلناه على مهل وتدريجٍ فهاتوا أنتم مثلَ نَوْبةٍ فذةٍ من نُوَبه، ونَجْم فَرْدٍ من نجومه، فإنه أيسرُ عليكم من أن يُنزلَ جُملةً واحدة، ويُتحدَّى بالكل.

وهذا كما ترى غايةُ ما يكون في التبكيت وإزاحةِ العلل، وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضميرِ الجلالة من التشريفِ والتنويه والتنبـيهِ على اختصاصه به عز وجل وانقيادِه لأوامره تعالى ما لا يخفى.

السابقالتالي
2 3 4 5