الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

[من بواعث التقوى]

{ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } وهو في محل النصب على أنه صفة ثانيةٌ لربكم، موضحة أو مادحة، أو على تقدير أخُص أو أمدَح، أو في محل الرفع على المدح والتعظيم بتقدير المبتدأ، قال ابن مالك: التُزم حذفُ الفعل في المنصوب على المدح إشعاراً بأنه إنشاء كما في المنادىٰ، وحُذف المبتدأ في المرفوع إجراءً للوجهين على سَننٍ واحد، وأما كونُه مبتدأً خبرُه فلا تجعلوا كما قيل، فيستدعي أن يكونَ مناطُ النهي ما في حين الصلة فقط من غير أن يكون لما سلف من خلقهم وخلقِ مَنْ قبلهم مدخلٌ في ذلك مع كونه أعظمَ شأناً، وجعل بمعنى صيّر، والمنصوبان بعده مفعولاه، وقيل: هي بمعنى خلق، وانتصابُ الثاني على الحالية والظرفُ متعلقٌ به على التقديرين، وتقديمُه على المفعول الصريح لتعجيل المسَرَّة ببـيان كون ما يعقُبه من منافع المخاطبـين، وللتشويق إليه، لأن النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لا سيما عند الإشعار بمنفعته تبقىٰ مترقبةً له، فيتمكن لديها عند ورودِه عليها فضلُ تمكن، أو لما في المؤخَّر وما عطف عليه من نوع طول. فلو قدُم لفات تجاوبُ أطرافِ النظم الكريم، ومعنى جعلها فراشاً جعل بعضَها بارزاً من الماء مع اقتضاء طبعها الرسوبَ، وجعلها متوسطةً بـين الصلابة واللين صالحةً للقعود عليها والنوم فيها كالبساط المفروش، وليس من ضرورة ذلك كونُها سطحاً حقيقياً، فإن كرويةَ شكلِها مع عظم جِرْمها مصححٌ لافتراشها، وقرىء بساطاً ومِهاداً.

{ وَٱلسَّمَاءَ بِنَاءً } عطفٌ على المفعولين السابقين، وتقديمُ حالِ الأرض لما أن احتياجَهم إليها وانتفاعَهم بها أكثرُ وأظهر، أي جعلها قُبة مضروبةً عليكم، والسماءُ اسم جنسٍ يُطلق على الواحد والمتعدد، أو جمع سماوة أو سماءة، والبناءُ في الأصل مصدرٌ سُمِّي به المبنيُّ بـيتاً كان أو قُبةً أو خِباءً، ومنه قولُهم: بَنىٰ على امرأته لما أنهم كانوا إذا تزوجوا امرأةً ضربوا عليها خِباءً جديداً.

{ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَاء } عطفٌ على جعل أي أنزل من جهتها، أو منها إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض، كما رُوي ذلك عنه عليه الصلاة والسلام أو المرادُ بالسماء جهةُ العلو كما ينبىء عنه الإظهارُ في موضع الإضمار، وهو على الأولين لزيادة التقرير، و(من) لابتداء الغايةِ متعلقةٌ بأنزل أو بمحذوفٍ وقع حالاً من المفعول أي كائناً من السماء، قُدِّم عليه لكونه نكرةً، وأما تقديمُ الظرفِ على الوجه الأول مع أن حقه التأخيرُ عن المفعول الصريح فإما لأن السماءَ أصلُه ومبدؤه، وإما لما مر من التشويق إليه مع ما فيه من مزيد انتظامٍ بـينه وبـين قوله تعالى: { فَأَخْرَجَ بِهِ } أي بسبب الماء { مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ }.

وذلك بأن أوْدَعَ في الماء قوةً فاعلة وفي الأرض قوةً منفعلة، فتولَّد من تفاعُلِهما أصنافُ االثمار، أو بأن أجرىٰ عادتَه بإفاضة صورِ الثمار وكيفيتها المخالفة على المادة الممتزجة منها وإن كان المؤثرَ في الحقيقة قدرتُه تعالى ومشيئتُه، فإنه تعالى قادر على أن يوجِدَ جميعَ الأشياء بلا مباد وموادَّ كما أبدع نفوسَ المبادىءِ والأسباب، لكن له عز وجل في إنشائها متقلبةً في الأحوال، ومتبدلةً في الأطوار من بدائعَ حِكَمٌ باهرةٌ تُجَدِّدُ لأولي الأبصار عِبراً ومزيدَ طُمَأنينة إلى عظيم قدرتِه ولطيفِ حكمتِه ما ليس في إبداعها بغتة، و(من) للتبعيض لقوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4