الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } نزلت في أصحاب السريةِ لما ظُنَّ بهم أنهم إنْ سلِموا من الإثم فلا أجرَ لهم { وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } كرَّر الموصولَ مع أن المرادَ بهما واحدٌ لتفخيم شأنِ الهجرةِ والجهاد فكأنهما مستقلانِ في تحقيق الرجاء { أُوْلَـٰئِكَ } المنعوتون بالنُّعوتِ الجليلة المذكورة { يَرْجُونَ } بما لهم من مبادىءِ الفوزِ { رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } أي ثوابه، أثبت لهم الرجاءَ دون الفوز بالمرجوِّ للإيذان بأنهم عالمون بأن العملَ غيرُ موجبٍ للأجر وإنما هو على طريق التفضُّلِ منه سبحانه لا لأن في فوزهم اشتباهاً { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } مبالِغٌ في مغفرةِ ما فرَط من عباده خطأً { رَّحِيمٌ } يُجزِل لهم الأجرَ والثوابَ، والجملةُ اعتراضٌ محقَّقٌ لمضمون ما قبلها.

{ يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } تواردَتْ في شأن الخمر أربعُ آياتٍ نزلت بمكة:وَمِن ثَمَرٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأعْنَـٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } [النحل، الآية 67] فطفِق المسلمون يشربونها، ثم إن عمرَ، ومُعاذاً ونفراً من الصحابة رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين قالوا: أَفْتِنا يا رسولَ الله في الخمر فإنها مُذهبةٌ للعقل فنزلت هذه الآية، فشرِبها قومٌ وتركها آخرون، ثم دعا عبدُ الرحمٰن بنُ عَوْف ناساً منهم، فشرِبوا فسكِروا، فأما أحدُهم فقرأ:قُلْ يا أَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [الكافرون، الآية: 2] فنزلتلاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ } [النساء، الآية: 43]، فقلَّ من يشرَبُها ثم دعا عتبانُ بن مالك سعدَ بنَ أبـي وقاصٍ في نفرٍ فلما سكِروا تفاخَروا وتناشدوا حتى أنشد سعدٌ شعراً فيه هجاءٌ للأنصار فضرَبه أنصاريٌّ بلَحْي بعيرٍ فشجه شجة موُضِحَة فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم بـين لنا في الخمر بـياناً شافياً " فنزلتإِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } [المائدة، الآية: 90] إلى قوله تعالى:فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة، الآية: 91] فقال عمرُ رضي الله عنه: «انتهينا يا رب» وعن علي رضي الله عنه: «لو وقعت قطرةٌ منها في بئر فبُنيت في مكانها مَنارةٌ لم أؤذّنْ عليها ولو وقعت في بحر ثم جَفَّ فنبت فيه الكلأُ لم أَرْعَه». وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما: «لو أدخلتُ أُصبَعي فيها لم تَتْبَعْني» وهذا هو الإيمانُ والتقىٰ حقاً رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. والخمرُ مصدرُ خمرَه أي ستره سُمّي به من عصير العنب ما غلىٰ واشتد وقذف بالزبد لتغطيتها العقلَ والتميـيزَ كأنها نفسُ السَّتر، كما سُميت سكَراً لأنها تسكُرهما أي تحجزهما. والميسِرُ مصدرٌ ميميٌّ من يَسَر كالموعِد والمرجِع يقال: يسَرْته إذا قمَرْته، واشتقاقه إما من اليُسر لأنه أخذُ المال بـيُسرٍ من غير كدّ و(لا) تعب، وإما من اليَسار لأنه سلبٌ له، وصفتُه أنه كانت لهم عشرةُ قِداح هي الأزلامُ والأقلام: الفذُّ والتوأمُ والرقيبُ والجَلْس والنافسُ والمُسبِلُ والمعلّىٰ والمَنيح والسَفيح والوغد لكل منها نصيبٌ معلوم من جَزور ينحرونها ويُجزّئونها عشرةَ أجزاء، وقيل: ثمانيةً وعشرين إلا الثلاثة وهي المنيحُ والسفيحُ والوغدُ للفذ سهمٌ وللتوأم سهمان وللرقيب ثلاثة وللجَلْس أربعة وللنافس خمسة وللمُسبل ستة وللمعلَّى سبعة يجعلونها في الربابة وهي خريطةٌ ويضعونها على يديْ عدلٍ ثم يجلجلها ويُدخِلُ يده فيُخرِج باسم رجلٍ رجلٍ قِدْحاً قدحاً فمن خرج له قِدْحٌ من ذوات الأنصباء أخذ النصيب المعيّنَ لها ومن خرج له من تلك الثلاثة غَرِم ثمنَ الجزور مع حِرمانه وكانوا يبـيعون تلك الأنصباءَ إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمّون من لا يدخُل فيه ويسمّونه البرم وفي حكمه جميعُ أنواعِ القمارِ من النرْدِ والشطرنج وغيرهما وعن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

السابقالتالي
2 3