الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

[الحث على عبادة الله]

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } إثرَ ما ذكر الله تعالى من علو طبقة كتابه الكريم وتحزُّب الناس في شأنه إلى ثلاث فرقٍ: مؤمنةٍ به محافظةٍ على ما فيه من الشرائع والأحكام. وكافرةٍ قد نبذتْه وراءَ ظهرِها بالمجاهرة والشقاق، وأخرى مذبذبةٍ بـينهما بالمخادعة والنفاق، ونعْتِ كل فرقةٍ منها بما لَها من النعوت والأحوال وبـين ما لهم من المصير والمآل - أقبل عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزاً لهم إلى الإصغاء وتوجيهاً لقلوبهم نحو التلقي، وجبراً لما في العبادة من الكُلفة بلذة الخطاب، فأمرهم كافةً بعبادته ونهاهم عن الإشراك به، و(يا) حرفٌ وضع لنداء البعيد، وقد ينادىٰ به القريبُ تنزيلاً له منزلةَ البعيد إما إجلالاً كما في قول الداعي: يا ألله ويا ربِّ، وهو أقربُ إليه من حبل الوريد استقصاراً لنفسه واستبعاداً لها من محافل الزُّلفىٰ ومنازلِ المقربـين، وإما تنبـيهاً على غفلته وسوءِ فهمِه وقد يُقصد به التنبـيهُ على أن ما يعقبُه أمرٌ خطير يُعتنىٰ بشأنه، و(أيُّ) اسمٌ مبهمٌ جعل وصلُه إلى نداء المعرف باللام لا على أنه المنادىٰ أصالةً بل على أنه صفةٌ موضحة له مُزيلة لإبهامه، والتُزم رفعُه مع انتصاب موصوفه محلاً إشعاراً بأنه المقصود بالنداء. وأُقحمَتْ بـينهما كلمةُ التنبـيه تأكيداً لمعنى النداء وتعويضاً عما يستحقه أي من المضاف إليه، ولِما ترى من استقلالِ هذه الطريقة بضروبٍ من أسباب المبالغةِ والتأكيد كثُر سلوكُها في التنزيل المجيد، كيف لا وكلُّ ما ورد في تضاعيفه على العباد من الأحكام والشرائع وغير ذلك خطوبٌ جليلةٌ حقيقةٌ بأن تقشعِرَّ منها الجلودُ وتطمئنَّ بها القلوبُ الأبـية، ويتلَقَّوْها بآذانٍ واعية، وأكثرهم عنها غافلون، فاقتضى الحالُ المبالغةَ والتأكيدَ في الإيقاظ والتنبـيه والمرادُ بالناس كافةُ المكلفين الموجودين في ذلك العصر، لما أن الجموعَ وأسماءَها المحلاة باللام للعموم بدليل صحة الاستثناءِ منها والتأكيدِ بما يفيد العمومَ كما في قوله تعالى:فَسَجَدَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [الحِجْر، الآية 30] واستدلالِ الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بعمومها شائعاً ذائعاً، وأما مَنْ عداهم ممن سيوجد منهم فغيرُ داخلين في خطاب المشافهة، وإنما دخولُهم تحت حُكْمِه لما تواتر من دينه صلى الله عليه وسلم، ضرورةَ أن مقتضىٰ خطابه وأحكامِه شاملٌ للموجودين من المكلفين ولمن سيوجد منهم إلى قيام الساعة، ولا يَقدح في العموم ما رُوي عن علقمةَ والحسنِ البصري من أن كلَّ ما نزل فيه { يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ } [البقرة، الآيات: 21، 167] فهو مكي، إذ ليس من ضرورة نزولِه بمكة شرفها الله تعالى اختصاصُ حُكمِه بأهلها ولا من قضية اختصاصِه بهم اختصاصُه بالكفار، إذ لم يكن كلُّ أهلها حينئذٍ كفرةً، ولا ضيرَ في تحقق العبادة في بعض المكلفين قبل ورود هذا الأمر لما أن المأمورَ به القدرُ المشترك الشاملُ لإنشاء العبادةِ والثباتِ عليها والزيادةِ فيها، مع أنها متكررة حسب تكررِ أسبابها ولا في انتفاء شرطها في الآخرين منهم أعني الإيمان لأن الأمرَ بها منتظِمٌ للأمر بما لا تتم إلا به وقد عُلم من الدين ضرورةً اشتراطُها به فإن أمرَ المحْدِث بالصلاة مستتبع للأمرِ بالتوضّي لا محالة.

السابقالتالي
2 3 4