الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ } رُوي: «أن المسلمين كانوا إذا أمسَوْا حلَّ لهم الأكلُ والشربُ والجِماعُ إلى أن يُصلّوا العشاءَ الأخيرة أو يرقُدوا، ثم أن عمرَ رضي الله عنه باشر بعد العِشاء فندِم، وأتى النبـيَّ صلى الله عليه وسلم واعتذر إليه فقام رجالٌ فاعترفوا بما صنعوا بعد العِشاء فنزلت» وليلةُ الصيام الليلةُ التي يصبِحُ منها صائماً والرفثُ كنايةٌ عن الجماع لأنه لا يكاد يخلو من رفث، وهو الإفصاحُ بما يجب أن يكنَّى عنه، وعُدِّي بإلى لتضمُّنه معنى الإفضاءِ والإنهاء، وإيثارُه ههنا لاستقباح ما ارتكبوه ولذلك سمِّي خيانةً وقرىء الرُفوث، وتقديمُ الظرف على القائم مقامَ الفاعل لما مرَّ مراراً من التشويق فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً إليه فيتمكن وقتَ ورودِه فضلَ تمكن { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } استئنافٌ مبـينٌ لسبب الإحلالِ وهو صعوبةُ الصبر عنهنّ مع شِدة المخالطة وكَثرةِ الملابَسة بهن، وجُعل كلٌّ من الرجل والمرأة لِباساً للآخرَ لاعتناقهما واشتمال كلَ منهما على الآخر بالليل قال: [المتقارب]
إذا ما الضجيعُ ثَنَى عِطفَها   تثنَّتْ فكانت عليه لِباساً
أو لأن كلاً منهما يستُر حالَ صاحبِه ويمنعُه من الفجور { عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } استئنافٌ آخرُ مبـين لما ذُكر من السبب، والاختيانُ أبلغُ من الخيانة كالاكتساب من الكسْب، ومعنى تختانون تظلِمونها بتعريضها للعقاب وتنقيصِ حظَّها من الثواب { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } عطفٌ على علِم أي تابَ عليكم لما تُبتم مما اقترفتموه { وَعَفَا عَنكُمْ } أي محا أثرَه عنك { فَٱلآنَ } لما نُسخ التحريمُ { بَـٰشِرُوهُنَّ } المباشرةُ إلزاقُ البَشَرة بالبَشَرة كُنِّي بها عن الجماع الذي يستلزِمُها وفيه دليلٌ على جواز نسخِ الكتاب للسنة { وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } أي واطلُبوا ما قدّره الله لكم وقرَّره في اللوحِ من الوَلدِ وفيه أن المباشِرَ ينبغي أنْ يكونَ غرضُه الولدَ فإنه الحكمةُ في خلق الشهوةِ وتشريعِ النكاحِ لا قضاءِ الشهوة، وقيل: فيه نهيٌ عن العَزْل وقيل: عن غير المأتيّ، والتقديرُ وابتغوا المحلَ الذي كُتب لكم { وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ } شبَّه أولَ ما يبدو من الفجر المعترِض في الأفق وما يمتدّ معه من غَلَس الليل بخيطين أبـيضَ وأسودَ، واكتُفي ببـيان الخيط الأبـيض بقوله تعالى: { مِنَ ٱلْفَجْرِ } عن بـيان الخيطِ الأسودِ لدلالته عليه وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل ويجوز أن يكون (من) للتبعيض فإن ما يبدو بعضُ الفجر وما رُوي من أنها نزلت ولم ينزلْ من الفجر فعمَد رجالٌ إلى خيطين أبـيضَ وأسودَ وطفِقوا يأكلون ويشربون حتى يتبـيَّنا لهم، فنزلت فلعل ذلك كان قبل دخولِ رمضانَ وتأخيرُ البـيان إلى وقت الحاجة جائزاً، واكتُفي أولاً باشتهارهما في ذلك ثم صُرِّح بالبـيان لما التَبَس على بعضهم، وفي تجويز المباشرةِ إلى الصبح دلالةٌ على جواز تأخيرِ الغُسل إليه وصحةِ صومِ من أصبح جُنباً { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ } بـيانٌ لآخِرِ وقتِه { وَلاَ تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَـٰجِدِ } أي معتكِفون فيها والمرادُ بالمباشرة الجِماعُ.

السابقالتالي
2