الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ } أي أكلها والانتفاعَ بها وهي التي ماتت على غير ذَكاةٍ، والسمكُ والجرادُ خارجان عنها بالعُرف أو باستثناء الشرعِ كخروج الطحال من الدم { وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ } إنما خُصّ لحمُه مع أن سائر أجزائه أيضاً في حكمه لأنه معظمُ ما يؤكل من الحيوان، وسائرُ أجزائِه بمنزلة التابع له { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } أي رُفِعَ به الصوتُ عند ذبحه للصنم، والإهلالُ أصلُه رؤيةُ الهلالِ لكن لما جرت العادةُ برفع الصوتِ بالتكبـير عندها سمِّي ذلك إهلالاً ثم قيل: لرفع الصوت وإن كان لغيره { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ } بالاستئثار على مضطر آخرَ { وَلاَ عَادٍ } سدَّ الرمق والجَوْعة وقيل: غير باغ على الوالي ولا عادٍ بقطع الطريق وعلى هذا لا يُباح للعاصي بالسفر وهو ظاهرُ مذهب الشافعي وقولُ أحمدَ رحمهما الله { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } في تناوله { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بالرخصة، إن قيل كلمة إنما تفيد قصرَ الحُكمِ على ما ذُكر وكم من حرام لم يُذكَرْ قلنا: المرادُ قصرُ الحرمة على ما ذُكر مما استحلوه لا مطلقاً، أو قصرُ حرمتِه على حالة الاختيارِ كأنه قيل: إنما حُرِّم عليكم هذه الأشياءُ ما لم تضطروا إليها.

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ } المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكامُ المحلَّلات والمحرَّمات حسبما ذكر آنفاً. وقال ابنُ عباس رضي الله عنهما: نزلت في رؤساء اليهود حين كتموا نعت النبـي صلى الله عليه وسلم { وَيَشْتَرُونَ بِهِ } أي يأخذون بدلَه { ثَمَناً قَلِيلاً } عِوَضاً حقيراً، وقد مر سرُّ التعبـير عن ذلك بالثمن الذي هو وسيلة في عود المعاوضة، وقولُه تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ } إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلة من الوصفَين الشنيعين المميَّزين لهم عمن عداهم أكملَ تميـيز الجاعلَيْن إياهم بحيث كأنهم حُضّارٌ مشاهِدون على ما هم عليه، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بغاية بُعدِ منزلتِهم في الشر والفساد، وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى: { مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ } والجملةُ خبرٌ لإن، أو اسمُ الإشارة مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأول والخبر ما يأكلون الخ ومعنى أكلِهم النارَ أنهم يأكلون في الحال ما يستتبِعُ النار ويستلزمُها فكأنه عينُ النار، وأكلُه أكلُها كقوله:
أكلتُ دماً إن لم أَرُعْكِ بضَرَّة   بعيدةِ مَهوىٰ القُرط طيّبةِ النشْرِ
أو يأكلون في المآل يوم القيامة عينَ النار عقوبةً على أكلهم الرِّشا في الدنيا و(في بطونهم) متعلقٌ بـيأكلون وفائدتُه تأكيدُ الأكلِ وتقريرُه ببـيان مقرِّ المأكول، وقيل: معناه ملءَ بطونهم كما في قولهم: أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه ومنه «كُلوا في بعض بطنِكم تعفّوا» فلا بد من الالتجاء إلى تعليقه بمحذوف وقعَ حالاً مقدّرة من النار مع تقديمه على حرف الاستثناء وإلا فتعليقُه بـيأكلون يؤدّي إلى قصْر ما يأكلونه إلى الشبع على النار والمقصود قصرُ ما يأكلونه مطلقاً عليها { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } عبارة عن غضبه العظيم عليهم وتعريضٌ بحرمانهم ما أتيح للمؤمنين من فنون الكرامات السنية والزلفى { وَلاَ يُزَكّيهِمْ } لا يُثني عليهم { وَلَهُمْ } مع ما ذكر { عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم.