الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }

{ أُوْلَـٰئِكَ } إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميِّزة لهم عمن عداهم أكملَ تميـيز، بحيث صاروا كأنهم حُضّارٌ مشاهِدون على ما هم عليه، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء الحال، ومحلُه الرفعُ على الابتداء، خبرُه قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } والجملة مَسوقةٌ لتقرير ما قبلها وبـيانٌ لكمال جهالتِهم فيما حُكيَ عنهم من الأقوال والأفعال بإظهار غايةِ سماجتها، وتصويرِها بصورةِ ما لا يكاد يتعاطاه مَنْ له أدنى تميـيزٍ فضلاً عن العقلاء. والضلالةُ الجَوْرُ عن القصد، والهدىٰ التوجهُ إليه، وقد استعير الأول للعدول عن الصواب في الدين، والثاني للاستقامة عليه، والاشتراء استبدال السلعة بالثمن، أي أخذُها به لا بذلُه لتحصيلها كما قيل، وإن كان مستلزِماً له، فإن المعتبرَ في عقد الشراء ومفهومِه هو الجلبُ دون السلب الذي هو المعتبرُ في عقد البـيع، ثم استعير لأخذ شيءٍ بإعطاء ما في يده عيناً كان كلٌّ منهما أو معنى، لا للإعراض عما في يده محصَّلاً به غيرُه كما قيل، وإن استلزمه لما مر سرُّه، ومنه قوله: [الرجز]
أخذت بالجُمّة رأسا أزعرا   وبالثنايا الواضحاتِ الدردرا
وبالطويل العُمْرِ عُمْرا جيدرا   كما اشترىٰ المسلمُ إذ تنصَّرا
فاشتراءُ الضلالة بالهدى مستعارٌ لأخذها بدلاً منه أخذاً منوطاً بالرغبة فيها والإعراض عنه، ولمّا اقتضىٰ ذلك أن يكون ما يجري مَجرىٰ الثمن حاصلاً للكفرة قبل العقد وما يجري مَجرىٰ المبـيعِ غيرَ حاصلٍ لهم إذ ذاك حسبما هو في البـيت، ولا ريب في أنهم بمعزل من الهدى، مستمرون على الضلالة استدعى الحالُ تحقيقَ ما جرى مَجرى العِوضَيْن، فنقول وبالله التوفيق:

ليس المرادُ بما تعلق به الاشتراءُ ههنا جنسَ الضلالة الشاملةِ لجميع أصناف الكفرة، حتى تكون حاصلةً لهم من قبل، بل هو فردُها الكاملُ الخاصُّ بهؤلاء، على أن اللام للعهد، وهو عَمَهُهم المقرونُ بالمد في الطغيان، المترتبُ على ما حُكي عنهم من القبائح. وذلك إنما يحصُل لهم عند اليأس عن اهتدائهم والختم على قلوبهم، وكذا ليس المرادُ بما في حيز الثمن نفسَ الهدى بل هو التمكنُ التام منه بتعاضد الأسباب، وتأخذ المقدماتُ المستتبِعةُ له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامعِ المشاركة في استتباعِ الجدوى، ولا مرية في أن هذه المرتبة من التمكن كانت حاصلةً لهم بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزاتِ القاهرةِ من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وبما سمعوه من نصائحِ المؤمنين التي من جُملتِها ما حكي من النهي عن الإفساد في الأرض، والأمرُ بالإيمان الصحيح، وقد نبذوها وراء ظهورهم، وأخذوا بدلها الضلالة الهائلةَ التي هي العمهُ في تيه الطغيان، وحملُ الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أَنَّ إضاعتَها غيرُ مختصة بهؤلاء، ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم على القلوب المختصة بهم فليس في إضاعتها فقط من الشناعة ما في إضاعتها مع ما يؤيدها من المؤيدات العقليةِ والنقلية، على أن ذلك يُفضي إلى كون ذكر ما فُصّل من أول السورة الكريمة إلى هنا ضائعاً، وأبعدُ منه حملُ اشتراء الضلالة بالهدى على مجرد اختيارها عليه من غير اعتبار كونه في أيديهم، بناءً على أنه يستعمل اتساعاً في إيثار أحدِ الشيئين الكائنين في شرَف الوقوع على الآخر، فإنه مع خلوِّه عن المزايا المذكورة بالمرة مُخِلٌّ برونق الترشيح الآتي، هذا على تقدير جعل الاشتراءِ المذكور عبارةً عن معاملتهم السابقة المحكية وهو الأنسبُ بتجاوب أطرافِ النظم الكريم.

السابقالتالي
2 3