الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

{ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ } توجيه للخطاب إلى المؤمنين بـين الخطابـين المختصين بالرسول صلى الله عليه وسلم لتأيـيد ما في مضمون الكلامِ من التشريف وذلك إشارةٌ إلى مصدر جعلناكم لا إلى جعل آخرَ مفهوم مما سبق كما قيل، وتوحيدُ الكاف مع القصد إلى المؤمنين لِما أن المرادَ مجردُ الفَرْق بـين الحاضر والمنقضي دون تعيـين المخاطبـين، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلوِّ درجةِ المشار إليه وبُعدِ منزلتِه في الفضل وكمالِ تميُّزه به وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهدة، والكاف لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة ومحلُها في الأصل النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ وأصلُ التقدير جعلناكم أمة وسَطاً جَعْلاً كائناً مثل ذلك الجعلِ فقُدّم على الفعل لإفادة القصْرِ، واعتُبرت الكاف مُقحَمَةً للنكتة المذكورةِ فصار نفسَ المصدر المؤكدِ لا نعتاً له أي ذلك الجعلَ البديعَ جعلناكم { أُمَّةً وَسَطًا } لا جعلاً آخرَ أدنى منه والوسَطُ في الأصل اسمٌ لما يستوي نِسبةُ الجوانبِ إليه كمركز الدائرة ثم استُعير للخصال المحمودةِ البشرية لكن لا لأن الأطرافَ يتسارع إليها الخللُ والإعوازُ، والأوساطُ محميّةٌ مَحوطَةٌ كما قيل، واستُشهد عليه بقول ابن أوسٍ الطائي: [البسيط]
كانت هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَت   بها الحوادثُ حتى أصبحت طَرَفا
فإن تلك العلاقةَ بمعزل من الاعتبار في هذا المقام إذ لا ملابَسةَ بـينها وبـين أهليةِ الشهادة التي جُعلت غايةً للجعل المذكور لكون تلك الخصالِ أوساطاً للخصال الذميمةِ المكتنفة بها من طرفي الإفراطِ والتفريطِ كالعِفة التي طرفاها الفجورُ والخمودُ، وكالشجاعة التي طرفاها التهوّرُ والجُبن وكالحِكمة التي طرفاها الجريرةُ والبَلادةُ وكالعدالة التي هي كيفية متشابهةٌ حاصلةٌ من اجتماع تلك الأوساط المحفوفة بأطرافها، ثم أطلقَ على المتصِّف بها مبالغةً كأنه نفسُها. وسُوّي فيه بـين المفرد والجمعِ والمذكرِ والمؤنث رعايةً لجانب الأصلِ كدأب سائر الأسماءِ التي يوصف بها، وقد روُعيت ههنا نُكتةٌ رائقةٌ هي أن الجعلَ المشارَ إليه عبارةٌ عما تقدم ذكرُه من هدايته تعالى إلى الحق الذي عبَّر عنه بالصراط المستقيم الذي هو الطريقُ السويُ الواقعُ في وسط الطرُق الجائرةِ عن القصد إلى الجانبـين، فإنا إذا فرضنا خطوطاً كثيرةً واصلةً بـين نُقطتين متقابلتين فالخطُ المستقيم إنما هو الخطُ الواقعُ في وسط تلك الخطوطِ المنحنية، ومن ضرورة كونِه وسطاً بـين الطرُق الجائرةِ كونُ الأمةِ المَهْديّة إليه أمةً وسطاً بـين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة أي متصفةً بالخصال الحميدةِ خياراً وعدُولاً مُزَكَّيْنَ بالعلم والعمل { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ } بأن الله عز وجل قد أوضح السبُل وأرسل الرُسل فبلّغوا ونصَحوا وذكّروا فهل من مُدَكِّرٍ وهي غاية للجعل المذكور مترتبةٌ عليه فإن العدالة كما أشير إليه حيث كانت هي الكيفيةُ المتشابهةُ المتألّفةُ من العفة التي هي فضيلةُ القوة الشَّهْوية البهيمية والشجاعة التي هي فضيلةُ القوةِ الغضبـيةِ السَّبُعية، والحكمة التي هي فضيلةُ القوةِ العقلية المَلَكية المشارِ إلى رتبتها بقوله عز وعلا:

السابقالتالي
2 3