الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } * { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }

{ تِلْكَ أُمَّةٌ } مبتدأٌ وخبرٌ، والإشارةُ إلى إبراهيمَ ويعقوبَ وبَنِيهما الموحِّدين، والأمةُ هي الجماعة التي تؤمّها فِرقُ الناس أي يقصِدونها ويقتدون بها { قَدْ خَلَتْ } صفة للخبر أي مضت بالموت وانفردت عمن عداها، وأصلُه صارت إلى الخلاء وهي الأرضُ التي لا أنيس بها { لَهَا مَا كَسَبَتْ } جملةٌ مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب أو صفةٌ أخرى لأمة، أو حال من الضمير في خلت وما موصولةٌ أو موصوفةٌ والعائدُ إليها محذوف أي لها ما كسبَتْه من الأعمال الصالحةِ المحكيةِ لا تتخطاها إلى غيرها فإن تقديمَ المُسندِ يوجب قصْرَ المُسند إليه عليه كما هو المشهور { وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم } عطف على نظيرتها على الوجه الأول، وجملةٌ مبتدأة على الوجهين الأخيرين إذ لا رابطَ فيها ولا بد منه في الصفة، ولا مقارنة في الزمان ولا بد منها في الحال أي لكم ما كسبتموه لا ما كسبه غيرُكم فإن تقديمَ المسند قد يُقصد به قصرُه على المسند إليه كما قيل في قوله تعالى:لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } [الكافرون، الآية 6] أي ولي ديني لا دينُكم وحملُ الجملة الأولى على هذا القصر على معنى أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا كما قيل مما لا يساعده المقامُ إذ لا يَتوهم متوهِّم انتفاعَهم بكسب هؤلاء حتى يُحتاج إلى بـيان امتناعِه وإنما الذي يُتوهم انتفاعُ هؤلاء بكسبهم فبـين امتناعَه بأن أعمالَهم الصالحة مخصوصةٌ بهم لا تتخطاهم إلى غيرهم وليس لهؤلاء إلا ما كسبوا فلا ينفعُهم انتسابُهم إليهم وإنما ينفعهم اتباعُهم لهم في الأعمال كما قال عليه السلام: " يا بني هاشم لا يأتيني الناسُ بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم " { وَلاَ تُسْـئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } إن أجريَ السؤالُ على ظاهره فالجملةُ مقرِّرة لمضمون ما مرَّ من الجملتين تقريراً ظاهراً وأن أريد به سببُه أعني الجزاءَ فهو تتميمٌ لما سبق جارٍ مَجرى النتيجةِ له وأياً ما كان فالمرادُ تخيـيبُ المخاطَبـين وقطعُ أطماعِهم الفارغةِ عن الانتفاع بحسناتِ الأمةِ الخاليةِ وإنما أُطلق العملُ لإثبات الحكم بالطريقِ البرهاني في ضمن قاعدة كليةٍ، هذا وقد جعل السؤال عبارةً عن المؤاخذة والموصول عن السيئات فقيل: أي لا تؤاخَذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم، ولا ريب في أنه مما لا يليق بشأن التنزيلِ كيف لا وهم منزّهون من كسب السيئاتِ فمن أين يُتصوَّر تحميلُها على غيرهم حتى يُتصَدَّى لبـيان انتفاعِه { وَقَالُواْ } شروع في بـيان فنٍ آخرَ من فنون كفرِهم وهو إضلالُهم لغيرهم إثرَ بـيانِ ضلالِهم في أنفسهم والضمير لأهل الكتابـين على طريقة الالتفاتِ المُؤْذن باستيجاب حالِهم لإبعادهم من مقام المخاطبةِ والإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتهم عند غيرهم أي قالوا للمؤمنين: { كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ } ليس هذا القولُ مقولاً لكلّهم أو لأيّ طائفةٍ كانت من الطائفتين بل هو موزَّعٌ عليهما على وجه خاصَ يقتضيه حالُهما اقتضاءً مُغنياً عن التصريح به أي قالت اليهودُ: كونوا هوداً، والنصارى: كونوا نصارى ففَعل بالنظم الكريم ما فَعل بقوله تعالى:

السابقالتالي
2