الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } من قِبَل المؤمنين بطريق الأمر بالمعروف إثرَ نهيِهم عن المنكر إتماماً للنُصح وإكمالاً للإرشاد: { ءامِنُواْ } حُذف المؤمَنُ به لظهوره أو أريدَ افعلوا الإيمان: { كَمَا ءامَنَ ٱلنَّاسُ } الكاف في محل النصب على أنه نعتٌ لمصدر مؤكدٍ محذوف أي آمنوا إيماناً مماثلاً لإيمانهم فما مصدرية أو كافة، كما في ربما، فإنها تكف الحرف عن العمل، وتصحح دخولَها على الجملة، وتكون للتشبـيه بـين مضموني الجملتين، أي حققوا إيمانَكم كما تحقق إيمانُهم، واللام للجنس، والمراد بالناس الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل، فإن اسمَ الجنس كما يُستعمل في مسماه يستعمل فيما يكون جامعاً للمعاني الخاصة به المقصودةِ منه، ولذلك يُسلب عما ليس كذلك، فيقال هو ليس بإنسان، وقد جمعهما من قال: [الطويل]
[بلادٌ بها كنَّا ونحن نحبُّها]   إذ الناسُ ناسٌ والزمانُ زمان
أو للعهد، والمرادُ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم ومن معه، أو مَنْ آمن مِنْ أهل جِلْدتهم كابن سلام وأضرابِه، والمعنى آمنوا إيماناً مقروناً بالإخلاص، متمحّضاً عن شوائب النفاق، مماثلاً لإيمانهم { قَالُواْ } مقابِلين للأمر بالمعروف بالإنكار المنكر، واصفين للمراجيح الرِّزانِ بضد أوصافِهم الحسانِ: { أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء } مشيرين باللام إلى من أشير إليهم في الناس من الكاملين، أو المعهودين، أو إلى الجنس بأسره، وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد، والسَّفهُ خِفةٌ وسخافةُ رأيٍ يُورِثهما قصورُ العقل، ويقابله الحِلْم والأناة، وإنما نسبوهم إليه مع أنهم في الغاية القاصية من الرشد والرزانةِ والوقار، لكمال انهماكِ أنفسِهم في السفاهة، وتماديهم في الغَواية، وكونِهم ممن زُين له سوءُ عمله فرآه حسناً، فمن حسِب الضلالَ هدىً يسمِّي الهدى - لا محالة - ضلالاً، أو لتحقير شأنهم، فإن كثيراً من المؤمنين كانوا فقراءَ، ومنهم مَوالٍ كصهيب وبلال، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المرادِ بالناس عبدَ الله بن سلام وأمثالَه، وأياً ما كان فالذي يقتضيه جزالةُ التنزيل ويستدعي فخامةُ شأنِه الجليل أن يكون صدورُ هذا القول عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جواباً عن نصيحتهم، وحيث كانوا فحواه تسفيهَ أولئك المشاهيرِ الأعلام، والقدحَ في إيمانهم لزم كونُهم مجاهرين لا منافقين. وذلك مما لا يكاد يساعده السِباق والسِياق، وعن هذا قالوا ينبغي أن يكون ذلك فيما بـينهم لا على وجه المؤمنين.

قال الإمام الواحدي: إنهم كانوا يُظهرون هذا القول فيما بـينهم لا عند المؤمنين، فأخبر الله تعالى نبـيّه عليه السلام والمؤمنين بذلك عنهم، وأنت خبـير بأن إبرازَ ما صدر عن أحد المتحاورَيْن في الخلاء في معرِض ما جرى بـينهما في مقام المحاورة مما لا عهدَ به في الكلام فضلاً عما هو في منصِب الإعجاز، فالحقُ الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر عنهم بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونَهم مجاهرين، فإنه ضربٌ من الكفر أنيقٌ، وفنّ في النفاق عريق، مصنوعٌ على شاكلة قولِهم:

السابقالتالي
2