الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }

{ وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ } عطفٌ على جواب (لما) أي نبذوا كتابَ الله واتبعوا كتبَ السَحَرة التي كانت تقرؤها الشياطين وهم المتمرِّدون من الجن، و(تتلو) حكايةُ حالٍ ماضيةٍ والمرادُ بالاتباع التوغلُ والتمحُّض فيه والإقبال عليه بالكلية، وإلا فأصلُ الاتباعِ كان حاصلاً قبل مجيءِ الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يتسنّى عطفُه على جواب لما ولذلك قيل: هو معطوف على الجملة، وقيل: على على أُشربوا { عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } أي في عهد مُلكِه قيل: كانت الشياطينُ يسترقون السمعَ ويضُمُّون إلى ما سمِعوا أكاذيبَ يُلفِّقونها ويُلْقونها إلى الكهنة وهم يدوِّنونها ويعلّمونها الناسَ وفشا ذلك في عهد سليمانَ عليه السلام حتى قيل: إن الجن تعلم الغيب، وكانوا يقولون هذا عِلمُ سليمان وما تم له مُلكُه إلا بهذا العلم، وبه سَخَّر الإنسَ والجنّ والطيرَ والريحَ التي تجري بأمره، وقيل: إن سليمانَ عليه السلام كان قد دفنَ كثيراً من العلوم التي خصّه الله تعالى بها تحت سريرِ مُلكه فلما مضت على ذلك مدةٌ توصَّل إليها قومٌ من المنافقين فكتبوا في خلال ذلك أشياءَ من فنون السحرِ تناسب تلك الأشياءَ المدفونةَ من بعض الوجوه، ثم بعد موته واطلاعِ الناس على تلك الكتبِ أوهموهم أنه من عملِ سُليمانَ عليه السلام وأنه ما بلغ هذا المبلغَ إلا بسبب هذه الأشياء.

{ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ } تنزيهٌ لساحته عليه السلام عن السحر وتكذيبٌ لمن افترى عليه بأنه كان يعتقده ويعمل به، والتعرُّضُ لكونه كُفراً للمبالغة في إظهار نزاهتِه عليه السلام وكذِبِ باهِتيهِ بذلك { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ } وقرىء بتخفيف (لكنّ) ورفع الشياطين، والواو عاطفةٌ للجملة الاستدراكية على ما قبلها، وكونُ المخففة عند الجمهور للعطف إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفرداً { كَفَرُواْ } باستعمال السحر وتدوينِه { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسّحْرَ } إغواءً وإضلالاً، والجملةُ في محل النصبِ على الحالية من ضمير كفروا أو من الشياطين فإن ما في (لكنّ) من رائحة الفعل كافٍ في العمل في الحال أو في محل الرفع على أنه خبرٌ ثانٍ للكنّ أو بدلٌ من الخبر الأول، وصيغةُ الاستقبال للدَلالة على استمرار التعليمِ وتجدُّدِه أو جملةٌ مستأنفة. هذا على تقدير كونِ الضميرِ للشياطين وأما على تقدير رجوعِه إلى فاعل اتبعوا فهي إما حالٌ منه وإما استئنافيةَ فحسب واعلم أن السحرَ أنواعٌ منها سحْرَ الكَلدانيـين الذين كانوا في قديم الدهر وهم قوم يعبُدون الكواكبَ ويزعُمون أنها هي المدبِّرةُ لهذا العالم ومنها تصدرُ الخيراتُ والشرورُ والسعادةُ والنحوسةُ، ويستحدثون الخوارقَ بواسطة تمزيج القُوى السماوية بالقوىٰ الأرضية وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام لإبطال مقالتهم وهم ثلاثُ فِرقٍ ففِرقةٌ منهم يزعُمون أن الأفلاكَ والنجومَ واجبةُ الوجود لذواتها وهم الصابئة، وفرقةٌ يقولون بإلٰهية الأفلاكِ ويتخذون لكل واحدٍ منها هيكلاً ويشتغلون بخدمتها وهم عبَدَةُ الأوثان، وفرقة أثبتوا للأفلاك وللكواكب فاعلاً مختاراً لكنهم قالوا إنه أعطاها قوةً عالية نافذةً في هذا العالم وفَوَّضَ تدبـيرَه إليها، ومنها سحْرَ أصحابِ الأوهام والنفوسِ القوية فإنهم يزعُمون أن الإنسانَ تبلُغُ روحُه بالتصفية في القوة والتأثير إلى حيث يقدِرُ على الإيجاد والإعدام والإحياءِ والإماتةِ وتغيـيرِ البُنية والشكل، ومنها سحرُ من يستعين بالأرواحِ الأرضيةِ وهو المسمّى بالعزائم.

السابقالتالي
2 3 4