الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } * { فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } * { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } * { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } * { لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً }

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَـٰطِينَ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما نطَقت به الآياتُ الكريمةُ السالفةُ وحكتْه عن هؤلاء الكفرةِ الغُواة والمَرَدةِ العُتاةِ من فنون القبائِح من الأقاويل والأفاعيلِ، والتمادي في الغي، والانهماكِ في الضلال، والإفراطِ في العِناد، والتصميمِ على الكفر من غير صارفٍ يَلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم، والإجماعِ على مدافعة الحقّ بعد اتضاحِه وانتفاءِ الشك عنه بالكلية، وتنبـيهٌ على أن جميعَ ذلك منهم بإضلال الشياطينِ وإغوائِهم لا لأن مسوِّغاً ما في الجملة، ومعنى إرسالِ الشياطينِ عليهم إما تسليطُهم عليهم وتمكينُهم من إضلالهم وإما تقيـيضُهم لهم، وليس المرادُ تعجيبَه عليه السلام من إرسالهم عليهم كما يوهمه تعليقُ الرؤية به، بل مما ذُكر من أحوال الكفرةِ من حيث كونُها من آثار إغواءِ الشياطينِ كما ينبىء عنه قوله تعالى: { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } فإنه إما حالٌ مقدّرةٌ من الشياطين أو استئنافٌ وقع جواباً عما نشأ من صدر الكلامِ، كأنه قيل: ماذا يفعل الشياطينُ بهم حينئذ؟ فقيل: تؤزّهم أي تُغريهم وتُهيّجهم على المعاصي تهيـيجاً شديداً بأنواع الوساوسِ والتسويلات، فإن الأزَّ والهزّ والاستفزازَ أخواتٌ معناها شدةُ الإزعاج.

{ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } أي بأن يُهلَكوا حسبما تقتضيه جناياتُهم ويَبـيدوا عن آخرهم وتطهُرَ الأرض من فساداتهم، والفاء للإشعار بكون ما قبلها مَظِنّةً لوقوع المنهيِّ مُحوِجةً إلى النهي كما في قوله تعالى: { إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ } [مريم: 84] وقوله تعالى: { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } تعليلٌ لموجب النهي ببـيان اقترابِ هلاكهم أي لا تستعجلْ بهلاكهم فإنه لم يبقَ لهم إلا أيامٌ وأنفاسٌ نعدّها عداً.

{ يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ } منصوبٌ على الظرفية بفعل مؤخّرٍ قد حُذف للإشعار بضيق العبارةِ عن حصره وشرحِه لكمال فظاعةِ ما يقع فيه من الطامّة والدواهي العامة، كأنه قيل: يوم نحشر المتقين أي نجمعهم { إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ } إلى ربهم الذي يغمرُهم برحمته الواسعة { وَفْداً } وافدين عليه كما يفد الوفودُ على الملوك منتظِرين لكرامتهم وإنعامِهم.

{ وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ } كما تُساق البهائم { إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } عِطاشاً فإن مَنْ يرد الماءَ لا يورِدُه إلا العطشُ، أو كالدوابّ التي ترِد الماءَ نفعل بالفريقين من الأفعال ما لا يخفى ببـيانه نطاقُ المقال، وقيل: منصوبٌ على المفعولية بمضمر مقدمٍ خوطب به النبـيُّ صلى الله عليه وسلم، أي اذكر لهم بطريق الترغيبِ والترهيبِ يوم نحشر الخ، وقيل: على الظرفية لقوله تعالى:

{ لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَـٰعَةَ } والذي يقتضيه مقامُ التهويلِ وتستدعيه جزالةُ التنزيل أن ينتصبَ بأحد الوجهين الأولَين ويكونُ هذا استئنافاً مبـيناً لبعض ما فيه من الأمور الدالةِ على هوله، وضميرُه عائداً إلى العباد المدلولِ عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيهما، وقيل: إلى المتقين خاصة، وقيل: إلى المجرمين من الكفرة وأهلِ الإسلام، والشفاعةُ على الأولين مصدرٌ من المبنيّ للفاعل وعلى الثالث ينبغي أن تكون مصدراً من المبنيّ للمفعول وقوله تعالى: { إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } على الأول استثناءٌ متصلٌ مِن لا يملكون، ومحلُّ المستثنى إما الرفعُ على البدل أو النصبُ على أصول الاستثناءِ والمعنى لا يملك العبادُ أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعَدّ له بالتحلّي بالإيمان والتقوى أو من أُمر بذلك، من قولهم: عهدِ الأميرُ إلى فلان بكذا إذا أمرَه به، فيكون ترغيباً للناس في تحصيل الإيمانِ والتقوى المؤدِّي إلى نيل هذه الرتبةِ، وعلى الثاني استثناءٌ من الشفاعة على حذف المضافِ والمستثنى منصوبٌ على البدل أو على أصل الاستثناءِ، أي لا يملك المتقون الشفاعةَ إلا شفاعةَ من اتخذ العهد بالإسلام فيكون ترغيباً في الإسلام، وعلى الثالث استثناءٌ مِنْ لا يملكون أيضاً والمستثنى مرفوعٌ على البدل أو منصوبٌ على الأصل والمعنى لا يملك المجرمون أن يَشفع لهم إلا مَنْ كان منهم مسلماً.