الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً } * { فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } * { وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } * { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً }

{ وَأَعْتَزِلُكُمْ } أي أتباعد عنك وعن قومك { وَمَا تَدْعُون مِن دُونِ ٱللَّهِ } بالمهاجَرة بديني حيث لم تؤثّرْ فيكم نصائحي.

{ وَأَدْعُو رَبّى } أعبدُه وحده، وقد جُوّز أن يراد به دعاؤُه المذكورُ في تفسير سورةِ الشعراء، ولا أن يبعُد أ يُرادَ به استدعاءُ الولد أيضاً بقوله:رَبّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ } [الصافات: 100] حسبما يساعده السباق والسياق { عَسَىٰ أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا } أي خائباً ضائعَ السعي، وفيه تعريضٌ بشقائهم في عبادة آلهتِهم، وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضعِ ومراعاة حسنِ الأدب والتنبـيهِ على حقيقة الحقِّ من أن الإجابةَ والإثابةَ بطريق التفضل منه عز وجل لا بطريق الوجوبِ، وأن العبرةَ بالخاتمة وذلك من الغيوب المختصّةِ بالعليم الخبـير ما لا يخفى.

{ فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } بالمهاجرة إلى الشام { وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } بدلَ مَنْ فارقهم من أقربائه الكفرة لكن لا عَقيبَ المهاجرة فإن المشهورَ أن الموهوبَ حينئذ إسماعيلُ عليه السلام لقوله تعالى:فَبَشَّرْنَـٰهُ بِغُلَـٰمٍ حَلِيمٍ } [الصافات: 101] إثرَ دعائِه بقولِه: { رَبّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ } ولعل ترتيبَ هِبتهما على اعتزاله هٰهنا لبـيان كمالِ عِظَم النّعم التي أعطاها الله تعالى إياه بمقابلة مَن اعتزلهم من الأهل والأقرباء فإنهما شجرتا الأنبـياء لهما أولادٌ وأحفادٌ أوُلو شأنٍ خطير وذوو عددٍ كثير. هاذ وقد روي أنه عليه السلام لما قصد الشام أتى أولاً حَرّان وتزوج بسارةَ وولدت له إسحاقَ ووُلد لإسحاقَ يعقوبُ والأولُ هو الأقربُ الأظهر { وَكُلاًّ } أي كلَّ واحد منهما أو منهم وهو مفعولٌ أولٌ لقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا نَبِيّاً } لا بعضَهم دون بعض.

{ وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا } هي النبوةُ، وذكرُها بعد ذكر جعلِهم نبـياً للإيذان بأنها من باب الرحمةِ، وقيل: هي المالُ والأولادُ وما بُسط لهم من سَعة الرزقِ، وقيل: هو الكتابُ والأظهر أنها عامةٌ لكل خير ديني ودنيويَ أُوتوه مما لم يُؤتَه أحدٌ من العالمين { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } يفتخر بهم الناسُ ويثنون عليهم استجابةً لدعوته بقوله:ٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِى ٱلآخِرِينَ } [الشعراء: 84] والمرادُ باللسان ما يوجد به من الكلام ولسانُ العرب لغتُهم، وإضافتُه إلى الصدق ووصفُه بالعلو للدلالة على أنهم أحِقّاءُ بما يثنون عليهم وأن محامِدَهم لا تخفى على تباعد الأعصارِ وتبدُّل الدول وتحوُّل المِلل والنِحَل.

{ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَـٰبِ مُوسَىٰ } قُدّم ذكرُه على ذكر إسماعيلَ لئلا ينفصِل عن يعقوبَ عليهما السلام { إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً } موحّداً أخلصَ عبادتِه عن الشرك والرياء، أو أسلم وجهَه لله تعالى وأخلص نفسَه عما سواه، وقرىء مخلَصاً على أن الله تعالى أخلصه { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } أرسله الله تعالى إلى الخلق فأنبأهم عنه ولذلك قُدّم رسولاً مع كونه أخلصَ وأعلى.