الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } * { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } * { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } * { يٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِيۤ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } * { يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً } * { يٰأَبَتِ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً }

{ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ } أي يوم يتحسر الناسُ قاطبةً، أما المسيءُ فعلى إساءته وأما المحسنُ فعلى قلة إحسانِه { إِذْ قُضِىَ ٱلأَمْرُ } أي فُرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار. روي أن النبـي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك، فقال: " حين يجاء بالموت على صورة كبشٍ أملحَ فيذبح والفريقان ينظرون، فينادي المنادي يا أهلَ الجنة خلودٌ فلا موت ويا أهلَ النار خلود فلا موت، فيزداد أهلُ الجنة فرحاً إلى فرح وأهلُ النار غمًّا إلى غم " وإذ بدلٌ من يومَ الحسرة أو ظرفٌ للحسرة فإن المصدرَ المعرّفَ باللام يعمل في المفعول الصريح عند بعضِهم فكيف بالظرف { وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ } أي عما يُفعل بهم في الآخرة { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وهما جملتان حاليتان من الضمير المستتر في قوله تعالى: { فِي ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } أي مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين، وما بـينهما اعتراضٌ، أو من مفعول أنذِرْهم أي أنذرهم غافلين غيرَ مؤمنين فيكون حالاً متضمنةً لمعنى التعليل.

{ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } لا يبقى لأحد غيرِنا عليها وعليهم مُلكٌ ولا مَلِك، أو نتوفى الأرضَ ومن عليها بالإفناء والإهلاك توَفيَ الوارثِ لإرثه { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } أي يُردّون للجزاء لا إلى غيرنا استقلالاً أو اشتراكاً.

{ وَٱذْكُرْ } عطف على أنذِرْهم { فِى ٱلْكِتَـٰبِ } أي في السورة أو في القرآن { إِبْرَاهِيمَ } أي اتلُ على الناس قصته وبلِّغها إياهم كقوله تعالى:وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرٰهِيمَ } [الشعراء: 69] فإنهم ينتمون إليه عليه السلام فعساهم باستماع قصته يُقلِعون عما هم فيه من القبائح { إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً } ملازماً للصدق في كل ما يأتي ويذر، أو كثيرَ التصديق لكثرة ما صدّق به غيوبَ الله تعالى وآياتِه وكتبَه ورسلَه، والجملةُ استئنافٌ مسَوقٌ لتعليل موجبِ الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكرِه { نَبِيّاً } خبرٌ آخرُ لكان مقيدٌ للأول مخصِّصٌ له كما ينبىء عنه قوله تعالى:مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ } [النساء: 69]، أي كان جامعاً بـين الصدّيقية والنبوة ولعل هذا الترتيبَ للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيصِ الصدّيقية بالنبوة فإن كلَّ نبـيَ صديقٌ.

{ إِذْ قَالَ } بدلُ اشتمالٍ من إبراهيمَ وما بـينهما اعتراضٌ مقررٌ لما قبله أو متعلق بكان أو بنبـياً، وتعليقُ الذكر بالأوقات مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيها من الحوادث قد مر سرُّه مراراً، أي كان جامعاً بـين الأثَرتين حين قال { لأَبِيهِ } آزرَ متلطفاً في الدعوة مستميلاً له { يٰأَبَتِ } أي با أبـي فإن التاء عوضٌ عن ياء الإضافة ولذلك لا يجتمعان، وقد قيل: يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ } ثناءَك عليه عند عبادتِك له وجؤارِك إليه { وَلاَ يَبْصِرُ } خضوعَك وخشوعَك بـين يديه، أو لا يسمع ولا يبصر شيئاً من المسموعات والمُبصَرات فيدخُل في ذلك ما ذكر دخولاً أولياً { وَلاَ يُغْنِى } أي لا يقدر على أن يغنيَ { عَنكَ شَيْئاً } في جلب نفعٍ أو دفع ضُرّ، ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسنَ منهاجٍ وأقومَ سبـيل، واحتج بحسن أدبٍ وخلقٍ جميل لئلا يركبَ متنَ المكابرة والعناد ولا يُنكّبَ بالكلية عن مَحَجّة الرشاد، حيث طَلب منه علةَ عبادتِه لِما يستخفّ به عقلُ كل عاقل من عالم وجاهلٍ ويأبى الركونّ إليه، فضلاً عن عبادته التي هي الغايةُ القاصية من التعظيم مع أنها لا تحِقّ إلا لمن له الاستغناءُ التامُّ والإنعامُ العام: الخالقِ الرازقِ المحيـي المميتِ المثيبِ المعاقب، ونبّه على أن العاقل يجب أن يفعل كلَّ ما يفعل لداعيةٍ صحيحة وغرضٍ صحيح، والشيءُ لو كان حياً مميّزاً سميعاً بصيراً قادراً على النفع والضرِّ مطيقاً بإيصال الخير والشر ـ لكن كان ممكِناً ـ لاستنكف العقلُ السليمُ عن عبادته، وإن كان أشرفَ الخلائق لما يراه مِثْلَه في الحاجة والانقيادِ للقدرة القاهرةِ الواجبة، فما ظنُّك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ليس له من أوصاف الإحياءِ عينٌ ولا أثرٌ ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديَه إلى الحق المبـين، لِما أنه لم يكن محفوظاً من العلم الإلٰهي مستقلاً بالنظر السويّ مصدّراً لدعوته بما مر من الاستمالة والاستعطاف حيث قال:

{ يٰأَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ } ولم يسِمْ أباه بالجهل المُفرِط وإن كان في أقصاه ولا نفسَه بالعلم الفائق وإن كان كذلك، بل أبرز نفسه في صورة رفيقٍ له أعرفَ بأحوال ما سلكاه من الطريق، فاستماله برفق حيث قال: { فَٱتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرٰطَاً سَوِيّاً } أي مستقيماً موصلاً إلى أسنى المطالب منجياً عن الضلال المؤدّي إلى مهاوي الردى والمعاطب، ثم ثبّطه عما كان عليه بتصويره بصورة يستنكرها كلُّ عاقل ببـيانِ أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلبٌ لضرر عظيم، فإنه في الحقيقة عبادةُ الشيطان لِما أنه الآمرُ به فقال: { يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ } فإن عبادتك للأصنام عبادةٌ له إذ هو الذي يسولها لك ويغريك عليها وقوله: { إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً } تعليلٌ لموجب النهي وتأكيدٌ له ببـيان أنه مستعصٍ على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم، ولا ريب في أن المطيعَ للعاصي عاصٍ وكلُّ مَن هو عاصٍ حقيقٌ بأن يسترد منه النعم وينتقم منه، والإظهارُ في موضع الإضمار لزيادة التقريرِ، والاقتصارُ على ذكر عصيانه من بـين سائر جناياتِه لأنه مَلاكُها أو لأنه نتيجةُ معاداتِه لآدمَ عليه السلام وذريته، فتذكيرُه داعٍ لأبـيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته والتعرضُ لعنوان الرحمانية لإظهار كمالِ شناعة عصيانِه.

السابقالتالي
2