الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } * { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } * { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } * { قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً }

{ كَذٰلِكَ } أي أمرُ ذي القرنين كما وصفناه لك في رفعة المحلِّ وبسطةِ المُلك، أو أمرُه فيهم كأمره في أهل المغرِب من التخيـير والاختيارِ، ويجوز أن يكون صفةَ مصدرٍ محذوف لوجد أو نجعل أو صفةَ قومٍ، أي على قوم مثلَ ذلك القَبـيل الذي تغرُب عليهم الشمس في الكفر والحُكم، أو ستراً مثلَ سترِكم من اللباس والأكنان والجبال وغيرِ ذلك { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ } من الأسباب والعَدد والعُدد { خُبْراً } يعني أن ذلك من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علمُ اللطيفِ الخبـير. هذا على الوجه الأولِ وأما على الوجوه الباقيةِ فالمرادُ بما لديه ما يتناول ما جرى عليه وما صدر عنه وما لاقاه فتأمل.

{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } أي طريقاً ثالثاً معترِضاً بـين المشرق والمغرب آخذاً من الجنوب إلى الشمال { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } بـين الجبلين الذين سُدّ ما بـينهما وهو منقطَعُ أرضِ الترك مما يلي المشرِق، لا جبلا أرمينيةَ وأَذَرْبـيجان كما توهم، وقرىء بالضم، قيل: ما كان من خلق الله تعالى فهو مضموم وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح، وانتصاب بـين على المفعولية لأنه مبلوغ وهو من الظروف التي تستعمل أسماءً أيضاً كما ارتفع في قوله تعالى:لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [الأنعام: 94] وانجرّ في قوله تعالى:هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ } [الكهف: 78] { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } أي من ورائهما مجاوزاً عنهما { قَوْماً } أي أمة من الناس { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } لغرابة لغتِهم وقلة فِطنتِهم، وقرىء من باب الإفعال أي لا يُفهمون السامعَ كلامَهم، واختلفوا في أنهم من أي الأقوام، فقال الضحاك: هم جيلٌ من الترك، وقال السدي: التّركُ سريةٌ من يأجوجَ ومأجوجَ، خرجت فضرب ذو القرنين السدّ فبقيت خارجَه فجميعُ الترك منهم، وعن قتادة: أنهم اثنتان وعشرون قبـيلة سدّ ذو القرنين على إحدى وعشرين قبـيلةً منهم وبقيت واحدة فسُمّوا التركَ لأنهم تركوا خارجين.

قال أهل التاريخ: أولادُ نوح عليه السلام ثلاثةٌ: سامٌ وحامٌ ويافثُ، فسامٌ أبو العرب والعجمِ والروم، وحامٌ أبو الحبشةِ والزَّنج والنُّوبة، ويافثُ أبو الترك والخَزَر والصقالبة ويأجوجَ ومأجوج.

{ قَالُواْ } أي بواسطة مترجمِهم أو بالذات على أن يكون فهمُ ذي القرنين كلامَهم وإفهامُ كلامِه إياهم من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب { يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } قد ذكرنا أنهما من أولاد يافثَ بنِ نوحٍ عليه السلام، وقيل: يأجوجُ من الترك ومأجوجُ من الجيل، واختلف في صفاتهم فقيل: في غاية صِغرِ الجُثة وقِصَر القامة لا يزيد قدُّهم على شبر واحد، وقيل: في نهاية عِظَم الجسم وطولِ القامة تبلغ قدُودهم نحوَ مِائةٍ وعشرين ذراعاً وفيهم من عَرضُه كذلك، وقيل: لهم مخالبُ وأضراسٌ كالسباع وهما اسمانِ أعجميان بدليل منْع الصرفِ، وقيل: عربـيان من أجّ الظليمُ إذا أسرع وأصلهما الهمزة كما قرأ عاصم، وقد قرىء بغير همزةٍ ومُنع صرفُهما للتعريف والتأنيث { مُفْسِدُونَ فِى ٱلأَرْضِ } أي في أرضنا بالقتل والتخريب وإتلافِ الزروع، وقيل: كانوا يخرُجون أيام الربـيع فلا يتركون أخضرَ إلا أكلوه ولا يابساً إلا احتملوه، وقيل: كانوا يأكلون الناسَ أيضاً { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } أي جُعْلاً من أموالنا، والفاء لتفريع العَرض على إفسادهم في الأرض، وقرىء خَراجا وكلاهما واحد كالنَّول والنوال، وقيل: الخراجُ ما على الأرض والذمة والخَرْجُ المصدر، وقيل: الخرج ما كان على كل رأس والخراجُ ما كان على البلد، وقيل: الخرجُ ما تبرعْتَ به والخراج ما لزِمك أداؤُه { عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا } وقرىء بالضم.