الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَمَّا ٱلْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } * { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً } * { وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً }

{ وَأَمَّا ٱلْغُلَـٰمُ } الذي قتلتُه { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ } لم يصرح بكفرانه أو بكفره إشعاراً بعدم الحاجة إلى الذكر لظهوره { فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا } فخِفنا أن يغْشَى الوالدَين المؤمنَين { طُغْيَانًا } عليهما { وَكُفْراً } لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعِه ويُلحق بهما شراً وبلاءً، أو يُقرَنَ بإيمانهما طغيانُه وكفره فيجتمَع في بـيت واحد مؤمنان وطاغٍ كافرٌ، أو يُعدِيَهما بدائه ويُضلّهما بضلاله فيرتدّا بسببه، وإنما خشِيَ الخَضِر عليه الصلاة والسلام منه ذلك لأن الله سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمرِه، وقرىء فخاف ربك أي كره سبحانه كراهةَ مَن خاف سوء عاقبة الأمر فغيّره، ويجوز أن تكون القراءةُ المشهورة على الحكاية بمعنى فكرِهنا كقوله تعالى:لأهَبَ لَكِ } [مريم، الآية 19] { فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً } منه بأن يرزُقهما بدلَه ولداً خيراً { مِنْهُ } وفي التعرض لعنوان الربوبـيةِ والإضافةِ إليهما ما لا يخفى من الدِلالة على إرادة وصولِ الخير إليهما { زَكَوٰة } طهارةً من الذنوب والأخلاق الرديئة { وَأَقْرَبَ رُحْماً } أي رحمةً وعطفاً، قيل: وُلدت لهما جاريةٌ تزوجها نبـي فولدت نبـياً هدى أي تعالى على يده أمةً من الأمم، وقيل: ولدت سبعين نبـياً، وقيل: أبدلهما ابناً مؤمناً مثلَهما، وقرىء رُحُماً بضم الحاء أيضاً وانتصابُه على التميـيز مثلُ زكوة.

{ وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ } المعهودُ { فَكَانَ لِغُلَـٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى ٱلْمَدِينَةِ } هي القريةُ المذكورة فيما سبق، ولعل التعبـيرَ عنها بالمدينة لإظهار نوعِ اعتدادٍ بها باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبـيهما الصالحِ، قيل: اسماهما أصرم وصريم واسمُ المقتول جيسور { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } من فضة وذهب كما رُوي مرفوعاً. والذمُّ على كنزهما في قوله عز وجل:وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } [التوبة، الآية 34] لمن لا يؤدي زكاتَهما وسائرَ حقوقهما. وقيل: كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه: (عجبْتُ لمن يؤمن بالقدر كيف يحزَن، وعجبتُ لمن يؤمن بالرزق كيف يتعَب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفُل، وعجبت لمن يعرِف الدنيا وتقلُّبَها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إلٰه إلا الله محمد رسول الله). وقيل: صحفٌ فيها علم. { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحاً } تنبـيهٌ على أن سعيَه في ذلك كان لصلاحه، قيل: كان بـينهما وبـين الأب الذي حُفظا فيه سبعةُ آباء { فَأَرَادَ رَبُّكَ } أي مالكُك ومدبرُ أمورك، ففي إضافة الربِّ إلى ضمير موسى عليه الصلاة والسلام دون ضميرهما تنبـيهٌ له عليه الصلاة والسلام على تحتم كمالِ الانقيادِ والاستسلامِ لإرادته سبحانه ووجوبِ الاحترازِ عن المناقشة فيما وقع بحسبها من الأمور المذكورة { أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } أي حُلُمَهما وكمالَ رأيهما { وَيَسْتَخْرِجَا } بالكلية { كَنزَهُمَا } من تحت الجدار ولولا أني أقمتُه لانقضّ وخرج الكنزُ من تحته قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميتِه وضاع { رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } مصدرٌ في موقع الحال أي مرحومَين منه عز وجل، أو مفعولٌ له أو مصدرٌ مؤكدٌ لأراد فإن إرادةَ الخير رحمةٌ، وقيل: متعلقٌ بمضمر أي فعلتُ ما فعلتُ من الأمور التي شاهدتَها رحمةً من ربك، ويعضُده إضافةُ الرب إلى ضمير المخاطبِ دون ضميرهما فيكون قوله عز وعلا: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى } أي عن رأيـي واجتهادي تأكيداً لذلك { ذٰلِكَ } إشارة إلى العواقب المنظومةِ في سلك البـيان، وما فيه معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتِها في الفخامة { تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع } أي لم تستطع فحُذف التاء للتخفيف { عَّلَيْهِ صَبْراً } من الأمور التي رابتْه أي مآلُه وعاقبتُه فيكون إنجازاً للتنبئة الموعودةِ، أو إلى البـيان نفسه فيكون التأويلُ بمعناه، وعلى كل حالٍ فهو فذلكةٌ لما تقدم، وفي جعل الصلة عينَ ما مر تكريرٌ للنكير وتشديدٌ للعتاب.