الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } * { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } * { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً }

{ مَّاكِثِينَ } حال من الضمير المجرور في لهم { فِيهِ } أي في ذلك الأجر { أَبَدًا } من غير انتهاء أي خالدين فيه، وهو نصبٌ على الظرفية لماكثين، وتقديمُ الإنذار على التبشير لإظهار كمال العنايةِ بزجر الكفّارِ عما هم عليه مع مراعاة تقديمِ التخليةِ على التحلية، وتكريرُ الإنذار بقوله تعالى: { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدًا } متعلقاً بفِرْقة خاصة ممن عمّه الإنذارُ السابقُ من مستحقي البأسِ الشديدِ للإيذان بكمال فظاعةِ حالِهم لغاية شناعةِ كفرِهم وضلالِهم، أي وينذرَ من بـين سائر الكفرةِ هؤلاء المتفوّهين بمثل هاتيك العظيمةِ خاصة وهم كفارُ العرب الذين يقولون: الملائكةُ بناتُ الله تعالى، واليهودُ القائلون: عزيرٌ ابنُ الله، والنصارى القائلون: المسيحُ ابن الله، وتركُ إجراءِ الموصولِ على الموصوف كما فُعل في قوله تعالى:وَيُبَشّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الكهف: 2] للإيذان بكفاية ما في حيز الصلةِ في الكفر على أقبح الوجوه، وإيثارُ صيغةِ الماضي في الصلة للدِلالة على تحقق صدورِ تلك الكلمةِ القبـيحة عنهم فيما سبق. وجعلُ المفعولِ المحذوفِ فيما سلف عبارةً عن هذه الطائفة يؤدي إلى خروج سائرِ أصنافِ الكفرة عن الإنذار والوعيدِ، وتعميمُ الإنذارِ هناك للمؤمنين أيضاً بحمله على معنى مجردِ الإخبارِ بالخبر الضارِّ من غير اعتبار حُلول المنذَرِ به على المنذَر كما في قوله تعالى:أَنْ أَنْذِر ٱلنَّاس وَبَشر ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } [يونس: 2] يُفضي إلى خلوّ النظمِ الكريم عن الدلالة على حلول البأسِ الشديدِ على مَنْ عدا هذه الفرقةِ، ويجوز أن يكون الفاعلُ في الأفعال الثلاثة ضميرَ الكتاب أو ضميرَ الرسول عليه الصلاة والسلام.

{ مَا لَهُمْ بِهِ } أي باتخاذه سبحانه وتعالى ولداً { مِنْ عِلْمٍ } مرفوعٌ على الابتداء أو الفاعلية لاعتماد الظرفِ، ومِن مزيدةٌ لتأكيد النفي والجملةُ حاليةٌ أو مستأنَفةٌ لبـيان حالِهم في مقالهم، أي ما لهم بذلك شيءٌ من علم أصلاً لا لإخلالهم بطريقه مع تحقيق المعلومِ أو إمكانِه بل لاستحالته في نفسه { وَلاَ لآبَائِهِمْ } الذين قلدوهم فتاهوا جميعاً في تيه الجهالةِ والضلالةِ أو ما لهم علمٌ بما قالوه أهو صوابٌ أم خطأٌ، بل إنما قالوه رمياً عن عمًى وجهالةٍ من غير فكر ورويّةٍ كما في قوله تعالى:وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام: 100] أو بحقيقة ما قالوه وبعظم رُتبتِه في الشناعة كما في قوله تعالى:وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدَا تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } [مريم، الآيات: 88، 89، 90] وهو الأنسب بقوله تعالى: { كَبُرَتْ كَلِمَةً } أي عظُمت مقالتُهم هذه في الكفر والافتراءِ لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكاد يليق بجناب كبريائِه، والفاعلُ في كبُرت إما ضميرُ المقالةِ المدلولِ عليها بقالوا وكلمةً نُصبَ على التميـيز أو ضميرٌ مبهمٌ مفسَّرٌ بما بعده من النكرة المنصوبةِ تميـيزاً كبئس رجلاً، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ تقديرُه كبُرت هي كلمةً خارجةً من أفواههم، وقرىء كبْرتْ بإسكان الباء مع إشمام الضم، وقرىء كلمةٌ بالرفع { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } صفةٌ للكلمة مفيدةٌ لاستعظام اجترائِهم على التفوه بها، وإسنادُ الخروجِ إليها مع أن الخارجَ هو الهواءُ المتكيفُ بكيفية الصوتِ لملابسته بها { إِن يَقُولُونَ } ما يقولون في ذلك الشأنِ { إِلاَّ كَذِبًا } أي إلا قولاً كذباً لا يكاد يدخُل تحت إمكانِ الصدق أصلاً، والضميران لهم ولآبائهم.

السابقالتالي
2