الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً }

{ ثُمَّ بَعَثْنَـٰهُمْ } أي أيقظناهم من تلك النومةِ الثقيلة الشبـيهة بالموت { لِنَعْلَمَ } بنون العظمة، وقرىء بالياء مبنياً للفاعل بطريق الالتفاتِ، وأياً ما كان فهو غايةٌ للبعث لكن لا بجعل العلمِ مجازاً من الإظهار والتميـيز، أو بحمله على ما يصِح وقوعُه غايةً للبعث الحادثِ من العلم الحالي الذي يتعلق به الجزاءُ كما في قوله تعالى:إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } [آل عمران: 144] وقوله تعالى:وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [آل عمران: 140] ونظائِرهما التي يتحقق فيها العلمُ بتحقق متعلقِه قطعاً، فإن تحويلَ القِبلة قد ترتب عليه تحزّبُ الناس إلى متّبعٍ ومنقلب، وكذا مداولةُ الأيامِ بـين الناس ترتب عليه تحزّبُهم إلى الثابت على الإيمان والمتزلزلِ فيه وتعلق بكل من الفريقين العلمُ الحالي والإظهارُ والتميـيزُ، وأما بعثُ هؤلاء فلم يترتب عليه تفرقُهم إلى المَحْصيِّ وغيره حتى يتعلق بهما العلم أو الإظهارُ والتميـيزُ ويتسنى نظمُ شيء من ذلك في سلك الغاية، وإنما الذي ترتب عليه تفرقُهم إلى مقدِّر تقديراً غيرَ مصيب ومفوِّض إلى العلم الرباني وليس شيءٌ منهما من الإحصاء في شيء بل بحمل النظمِ الكريم على التمثيل المبنيِّ على جعل العلمِ عبارةً عن الاختبار مجازاً بطريق إطلاقِ اسمِ المسبَّب على السبب، وليس من ضرورة الاختبارِ صدورُ الفعل المختبَرِ به عن المختبَرِ قطعاً، بل قد يكون لإظهار عجزِه عنه على سنن التكاليفِ التعجيزيةِ كقوله تعالى:فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ } [البقرة، الآية 258] وهو المرادُ هٰهنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملةَ من يختبرهم.

{ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } أي الفريقين المختلفَين في مدة لُبثهم بالتقدير والتفويض كما سيأتي { أَحْصَىٰ } أي أضبط { لِمَا لَبِثُواْ } أي للبثهم { أَمَدًا } أي غايةً فيظهر لهم عجزُهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبـير ويتعرفوا حالَهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانِهم وأديانِهم فيزدادوا يقيناً بكمال قدرتِه وعلمِه ويستبصروا به أمرَ البعث ويكون ذلك لطفاً لمؤمني زمانِهم وآيةً بـينة لكفارهم، وقد اقتُصر هٰهنا من تلك الغايات الجليلةِ على ذكر مبدئِها الصادرِ عنه عز وجل وفيما سيأتي على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدّي إليها، وهذا أولى من تصوير التمثيلِ بأن يقال: بعثناهم بعْثَ من يريد أن يعلم الخ حسبما وقع في تفسير قوله تعالى:وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [آل عمران، الآية 140] على أحد الوجوهِ حيث حُمل على معنى فعلنا ذلك فِعْلَ مَن يريد أن يعلم مَن الثابتُ على الإيمان من غير الثابت، إذ ربما يتوهم منه استلزامُ الإرادةِ لتحقق المراد، فيعود المحذورُ فيصار إلى جعل إرادةِ العلم عبارةً عن الاختبار فاختبر واختر.

هذا وقد قرىء ليُعْلِمَ مبنياً للمفعول ومبنياً للفاعل من الإعلام على أن المفعولَ الأولَ محذوفٌ والجملة المصدرةُ بأي في موقع المفعولِ الثاني فقط إن جعل العلمُ عِرفانياً، وفي موقع المفعولين إن جعل يقينياً أي ليُعلِمَ الله الناسَ أيَّ الحزبـين أحصى الخ، وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أحدَ الحزبـين الفتيةُ والآخرَ الملوكُ الذين تداولوا المدينةَ مُلكاً بعد ملك، وقيل: كلاهما من غيرهم والأولُ هو الأظهر، فإن اللامَ للعهد ولا عهدَ لغيرهم والأمدُ بمعنى المدى كالغاية في قولهم: ابتداءُ الغاية وانتهاءُ الغاية وهو مفعولٌ لأحصي، والجارُّ والمجرور حالٌ منه قدمت عليه لكونه نكرةً.

السابقالتالي
2 3