الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } * { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً }

{ ذٰلِكَ } أي الذي تقدم من التكاليف المفصلة { مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ } أي بعضٌ منه أو من جنسه { مِنَ ٱلْحِكْمَةِ } التي هي علمُ الشرائعِ أو معرفةُ الحق لذاته والعملُ به، أو من الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخُ والفساد. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآياتِ الثمانيَ عشرةَ كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها: { لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ } قال تعالى:وَكَتَبْنَا لَهُ فِى ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً } [الأعراف: 145] وهي عشرُ آيات في التوراة. ومِنْ إما متعلقةٌ بأوحى على أنها تبعيضية أو ابتدائيةٌ، وإما بمحذوف وقع حالاً من الموصول أو من ضميره المحذوفِ في الصلة أي كائناً من الحِكمة، وإما بدلٌ من الموصول بإعادة الجار.

{ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ } الخطابُ للرسول عليه الصلاة والسلام والمراد غيرُه ممن يتصور منه صدورُ المنهيِّ عنه، وقد كُرر للتنبـيه على أن التوحيد مبدأُ الأمرِ ومنتهاه وأنه رأسُ كل حكمةٍ وملاكُها، ومن عدمِه لم تنفعْه علومُه وحكمته وإن بذّ فيها أساطينَ الحكماء وحكّ بـيافوخه عنان السماء، وقد رتب عليه ما هو عائدُ الإشراك أولاً حيث قيل: فتقعدَ مذموماً مخذولاً ورُتّب عليه هٰهنا نتيجتُه في العقبى فقيل: { فَتُلْقَىٰ فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا } من جهة نفسِك ومن جهة غيرك { مَّدْحُورًا } مبعَداً من رحمة الله تعالى، وفي إيراد الإلقاءِ مبنياً للمعفول جرْيٌ على سنن الكبرياء وازدراءٌ بالمشرك وجعلٌ له من قبـيل خشبةٍ يأخذها آخذٌ بكفه فيطرحها في التنور.

{ أَفَأَصْفَـٰكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ إِنَاثًا } خطاب للقائلين بأن الملائكةَ بنات الله سبحانه، والإصفاءُ بالشيء جعلُه خالصاً، والهمزةُ للإنكار، والفاء للعطف على مقدر يفسرّه المذكورُ، أي أفَضَّلكم على جنابه فخصّكم بأفضل الأولاد على وجه الخُلوص وآثرَ لذاته أخسَّها وأدناها كما في قوله سبحانه:أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلاْنثَىٰ } [النجم، الآية 21] وقوله تعالى:أَمْ لَهُ ٱلْبَنَـٰتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } [الطور، الآية 39] وقد قُصد هٰهنا بالتعرض لعنوان الربوبـية تشديدُ النكير وتأكيدُه وأشير بذكر الملائكة عليهم السلام، وإيرادِ الإناث مكانَ البنات إلى كفْرة لهم أخرى وهي وصفُهم لهم عليهم السلام بالأنوثة التي هي أخسُّ صفات الحيوان كقوله تعالى:وَجَعَلُواْ ٱلْمَلَـئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَـٰثاً } [الزخرف، الآية 19] { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ } بمقتضى مذهبِكم الباطلِ الذي هو إضافةُ الولدِ إليه سبحانه { قَوْلاً عَظِيمًا } لا يقادَر قدرُه في استتباعِ الإثمِ وخَرْقِه لقضايا العقول بحيث لا يجترىء عليه أحدٌ، حيث يجعلونه تعالى من قبـيل الأجسامِ المتجانسةِ السريعةِ الزوال وليس كمثله شيءٌ وهو الواحدُ القهارُ الباقي بذاته، ثم تضيفون إليه ما تكرهون من أخس الأولادِ وتفضِّلون عليه أنفسَكم بالبنين ثم تصِفون الملائكةَ الذين هم من أشرف الخلائقِ بالأنوثة التي هي أخسُّ أوصاف الحيوانِ، فيا لها من ضَلّة ما أقبحَها وكَفْرةٍ ما أشنعها وأفظعها.