الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } * { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً }

{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ } أي أمر أمراً مُبْرماً، وقرىء وأوصى ربُّك «ووصّى ربك» { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ } أي بأن لا تعبدوا { إِلاَّ إِيَّاهُ } على أنّ «أنْ» مصدريةٌ ولا نافيةٌ أو أي لا تعبدوا على أنها مفسرةٌ ولا ناهيةٌ لأن العبادة غايةُ التعظيمِ فلا تحِقُّ إلا لمن له غايةُ العظمة ونهايةُ الإنعام وهو كالتفصيل للسعي للآخرة { وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ } أي وبأن تُحسِنوا بهما أو وأحسنوا بهما { إِحْسَـٰناً } لأنهما السببُ الظاهرُ للوجود والتعيش { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } إما مركبةٌ من إن الشرطية وما المزيدةِ لتأكيدها ولذلك دخل الفعلَ نونُ التأكيد، ومعنى عندك في كنفك وكفالتك وتقديمُه على المفعول مع أن حقه التأخرُ عنه للتشويق إلى وروده فإن مدارَ تضاعف الرعايةِ الإحسانُ وأحدُهما فاعل للفعل وتأخيره عن الظرف والمفعولِ لئلا يطولَ الكلامُ به وبما عُطف عليه. وقرىء يبلغان فأحدُهما بدلٌ من ضمير التثنية وكلاهما عطفٌ عليه ولا سبـيل إلى جعل (كلاهما) تأكيداً للضمير، وتوحيدُ ضمير الخطاب في عندك وفيما بعده مع أن ما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المرادِ فإن المقصودَ نهيُ كلِّ أحد عن تأفيف والديه ونهْرِهما، ولو قوبل الجمعُ بالجمع أو بالتثنية لم يحصل هذا المرام { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا } أي لواحد منهما حالتي الانفراد والاجتماع { أُفّ } وهو صوتٌ ينبىء عن تضجر، أو اسمُ فعلٍ هو أتضجر، وقرىء بالكسر بلا تنوين وبالفتح والضم منوناً وغيرَ مُنوّن أي لا تتضجرْ بهما تستقذرُ منهما وتستثقل من مُؤَنهما وبهذا النهي يُفهم النهيُ عن سائر ما يؤذيهما بدلالة النصِّ، وقد خُص بالذكر بعضُه إظهاراً للاعتناء بشأنه فقيل: { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } أي لا تزجُرهما عما لا يعجبك بإغلاظ، قيل: النهيُ والنهرُ والنهْمُ أخواتٌ { وَقُل لَّهُمَا } بدلَ التأفيف والنهر { قَوْلاً كَرِيمًا } ذا كرمِ أو هو وصفٌ له بوصف صاحبِه أي قولاً صادراً عن كرم ولطفٍ، وهو القولُ الجميلُ الذي يقتضيه حسنُ الأدب ويستدعيه النزولُ على المروءة مثلُ أن يقول: يا أباه ويا أماه، كدأب إبراهيمَ عليه السلام إذ قال لأبـيه: يا أبتِ مع ما به من الكفر، ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوءِ الأدب وديدنُ الدُعّار. وسئل الفضيلُ بنُ عياض عن بر الوالدين فقال: أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل، وقيل: أن لا ترفعَ صوتَك عليهما ولا تنظُرَ إليهما شزْراً ولا يَرَيا منك مخالفةً في ظاهر ولا باطن وأن تترحّم عليهما ما عاشا وتدعوَ لهما إذا ماتا وتقومَ بخدمة أوِدّائِهما من بعدهما، فعن النبـي عليه الصلاة والسلام: " إنَّ مِنْ أَبَرِّ البِرِّ أنْ يصلَ الرجلُ أهلَ ودِّ أبـيه "

{ وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ } عبارةٌ عن إلانة الجانبِ والتواضعِ والتذلل لهما، فإن إعزازَهما لا يكون إلا بذلك فكأنه قيل: واخفض لهما جناحَ الذليل أو جُعل لذله جَناحٌ كما جَعل لبـيدٌ في قوله: [الكامل]

السابقالتالي
2