الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } * { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } * { مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }

{ وَكُلَّ إِنْسَـٰنٍ } مكلف { أَلْزَمْنَـٰهُ طَـٰئِرَهُ } أي عملَه الصادرَ عنه باختياره حسبما قُدِّر له كأنه طار إليه من عُشّ الغيب ووَكْر القدر، أو ما وقع له في القسمة الإلية الواقعةِ حسب استحقاقِه في العلم الأزليِّ من قولهم: طار له سهمٌ كذا { فِى عُنُقِهِ } تصويرٌ لشدة اللزوم وكمالِ الارتباط أي ألزمناه عملَه بحيث لا يفارقه أبداً بل يلزمه لزومَ القِلادة أو الغُلّ للعنق لا ينفك عنه بحال، وقرىء بسكون النون { وَنُخْرِجُ لَهُ } بنون العظمة وقد قرىء بالياء مبنياً للفاعل على أن الضمير لله عز وجل وللمفعول، والضمير للطائر كما في قراءة يخرُج من الخروج { يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } للحساب { كِتَـٰباً } مسطوراً فيه ما ذكر من عمله نقيراً وقِطميراً وهو مفعول لنُخرجُ على القراءتين الأُوليـين أو حالٌ من المفعول المحذوفِ الراجع إلى الطائر وعلى الأخرَيَـين حالٌ من المستتر في الفعل من ضمير الطائر { يَلْقَـٰهُ } الإنسان { مَنْشُوراً } وهما صفتان للكتاب أو الأول صفةٌ والثاني حالٌ منها، وقرىء يلقاه من لقِيته كذا أي يلقىٰ الإنسانُ إياه. قال الحسن: بُسِطت لك صحيفةٌ ووكّل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ سيئاتِك حتى إذا مُت طُويت صحيفتُك وجُعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة.

{ ٱقْرَأْ كَتَـٰبَكَ } أي قائلين لك ذلك. عن قتادة يقرأ ذلك اليومَ من لم يكن في الدنيا قارئاً، وقيل: المرادُ بالكتاب نفسُه المنتقشةُ بآثار أعماله فإن كل عمل يصدُر من الإنسان خيراً أو شرًّا يحدُث منه في جوهر روحِه أمرٌ مخصوصٌ إلا أنه يخفى ما دام الروحُ متعلقاً بالبدن مشتغلاً بواردات الحواسِّ والقُوى، فإذا انقطعت علاقتُه عن البدن قامت قيامته لأن النفس كانت ساكنةً مستقرة في الجسد وعند ذلك قامت وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلويِّ فيزول الغطاءُ وتنكشف الأحوالُ ويظهر على لَوح النفس نقشُ كلِّ شيء عملِه في مدة عمرِه وهذا معنى الكتابة والقراءة { كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } أي كفى نفسُك، والباء زائدة واليومَ ظرفٌ لكفى وحسيباً تميـيزٌ و(على) صلتُه لأنه بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى الصارم من حسَب عليه كذا. أو بمعنى الكافي، ووُضِع موضعَ الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه. وتذكيرُه لأن ما ذكر من الحساب والكفاية مما يتولاه الرجال أو لأنه مبنيٌّ على تأويل النفس بالشخص على أنها عبارة عن نفس المذكر كقول جَبَلةَ بن حريث: [البسيط]
يا نفسُ إنكِ باللذات مسرورُ   فاذكرْ فهل ينفعَنْك اليوم تذكيرُ
{ مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ } فذلكةٌ لما تقدم من بـيان كونِ القرآن هادياً لأقوم الطرائقِ ولزومِ الأعمال لأصحابها، أي من اهتدى بهدايته وعمِل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعةُ اهتدائِه إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتدِ { وَمَن ضَلَّ } عن الطريقة التي يهديه إليها { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي فإنما وبالُ ضلاله عليها لا على من عداه ممّن يباشره حتى يمكن مفارقةُ العمل صاحبَه { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } تأكيد للجملة الثانية، أي لا تحمل نفسٌ حاملةٌ للوزر وزرَ نفسٍ أخرى حتى يمكن تخلّصُ النفس الثانية عن وزرها ويختلَّ ما بـين العامل وعملِه من التلازم، بل إنما تحمل كلٌّ منها وزرها، وهذا تحقيقٌ لمعنى قوله عز وجل: { وَكُلَّ إِنْسَـٰنٍ أَلْزَمْنَـٰهُ طَـٰئِرَهُ فِى عُنُقِهِ } [الإسراء، الآية 13] وأما ما يدل عليه قوله تعالى:

السابقالتالي
2