الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ }

{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } سبحان علمٌ للتسبـيح كعثمانَ للرجل وحيث كان المسمّى معنى لا عيناً، وجنساً لا شخصاً لم تكن إضافتُه من قبـيل ما في: زيدُ المعارك أو حاتمُ طيْءٍ، وانتصابه بفعل متروكِ الإظهار تقديرُه أسبح الله سبحان الخ، وفيه ما لا يخفى من الدلالة على التنزيه البليغِ من حيث الاشتقاقُ من السبْح الذي هو الذهابُ والإبعادُ في الأرض، ومنه فرسٌ سَبوحٌ أي واسعُ الجري، ومن جهة النقلِ إلى التفعيل، ومن جهة العدولِ من المصدر إلى الاسم الموضوعِ له خاصة لا سيما وهو علمٌ يشير إلى الحقيقة الحاضرةِ في الذهن ومن جهة قيامِه مَقام المصدر مع الفعل، وقيل: هو مصدرٌ كغفران بمعنى التنزه، ففيه مبالغةٌ من حيث إضافةُ التنزه إلى ذاته المقدسةِ ومناسبةٌ تامة بـين المحذوف وبـين ما عُطف عليه في قوله سبحانه وتعالى، كأنه قيل: تنزه بذاته وتعالى. والإسراءُ السيرُ بالليل خاصة كالسُّرى وقوله تعالى: { لَيْلاً } لإفادة قلةِ زمان الإسراءِ لِما فيه من التنكير الدالِّ على البعضية من حيث الأجزاءُ دَلالتَه على البعضية من حيث الأفراد، فإن قولك: سِرت ليلاً كما يفيد بعضيةَ زمان سيرِك من الليالي يفيد بعضيتَه من فرد واحد منها بخلاف ما إذا قلت: سرتُ الليلَ فإنه يفيد استيعابَ السير له جميعاً، فيكون معياراً للسير لا ظرفاً له ويؤيده قراءةُ (من الليل) أي بعضِه، وإيثارُ لفظ العبدِ للإيذان بتمحّضه عليه الصلاة والسلام في عبادته سبحانه وبلوغِه في ذلك غايةَ الغايات القاصيةِ ونهايةَ النهاياتِ النائية حسبما يلوّح به مبدأُ الإسراء ومنتهاه، وإضافةُ التنزيه أو التنزّه إلى الموصول المذكورِ للإشعار بعلّية ما في حيز الصلةِ للمضاف فإن ذلك من أدلة كمالِ قدرتِه وبالغِ حكمتِه ونهايةِ تنزهه عن صفات المخلوقين.

{ مّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } اختُلف في مبدأ الإسراءِ فقيل: هو المسجدُ الحرام بعينه وهو الظاهرُ، فإنه رُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " بـينا أنا في المسجد الحرام في الحِجْر عند البـيت بـين النائم واليقظانِ إذْ أتاني جبريلُ عليه الصلاة والسلام بالبُراق " وقيل: هو دارُ أم هانىءٍ بنتِ أبـي طالب، والمراد بالمسجد الحرام الحرمُ لإحاطته بالمسجد والْتباسِه به، أو لأن الحرم كلَّه مسجد، فإنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما " أنه عليه الصلاة والسلام كان نائماً في بـيت أم هانىء بعد صلاة العشاءِ فكان ما كان فقصّه عليها، فلما قام ليخرُج إلى المسجد تشبّثتْ بثوبه عليه الصلاة والسلام لتمنعه خشية أن يكذبه القومُ، قال عليه الصلاة والسلام: «وإن كذبوني»، فلما خرج جلس إليه أبو جهل فأخبره صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراءِ فقال أبو جهل: يا معشر كعبِ بنِ لؤي بنِ غالب، هلُمّ فحدِّثْهم فمن مصفّق وواضعٍ يدَه على رأسه تعجباً وإنكاراً وارتد ناسٌ ممن كان آمن به، وسعى رجالٌ إلى أبـي بكر فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أتصدّقه على ذلك؟ قال: إني أصدقه على أبعدَ من ذلك، فسُمِّيَ الصِّديقُ وكان فيهم من يعرف بـيت المقدس فاستنعتوه المسجدَ فجُلِّي له بـيتُ المقدس فطفِق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا: أما النعتُ فقد أصابه. فقالوا: أخبِرْنا عن عِيرنا، فأخبرهم بعدد جمالِها وأحوالها وقال: «تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمُها جملٌ أورَقُ»، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم: هذه والله الشمسُ قد أشرقت، فقال آخرُ: هذه والله العِيرُ قد أقبلت يقدمها جملٌ أورقُ كما قال محمد، ثم لم يؤمنوا قاتلهم الله أنى يؤفكون "

السابقالتالي
2