الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَٰتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأَيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } * { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ }

{ أَلَمْ يَرَوْاْ } وقرىء بالتاء { إِلَى ٱلطَّيْرِ } جمع طائر أي ألم ينظروا إليها { مُسَخَّرٰتٍ } مذلّلاتٍ للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسبابِ المساعدة له، وفيه مبالغةٌ من حيث إن معنى التسخيرِ جعلُ الشيء منقاداً لآخرَ يتصرف فيه كيف يشاء كتسخير البحر والفُلك والدوابِّ للإنسان، والواقعُ هٰهنا تسخيرُ الهواء للطير لتطير فيه كيف تشاء فكان مقتضى طبـيعةِ الطير السقوطَ فسخرها الله تعالى للطيران، وفيه تنبـيهٌ على أن الطيرانَ ليس بمقتضى طبعِ الطير بل ذلك بتسخير الله تعالى { فِى جَوّ ٱلسَّمَآء } أي في الهواء المتباعدِ من الأرضَ والسكاك واللوح أبعدُ منه، وإضافتُه إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر ولإظهار كمالِ أجلّ القدرة.

{ مَا يُمْسِكُهُنَّ } في الجو حين قبْضِ أجنحتهن وبسطِها ووقوفِهن { إِلاَّ ٱللَّهُ } عز وجل بقدرته الواسعة، فإن ثقلَ جسدها ورِقّةَ قوامِ الهواء يقتضيان سقوطَها ولا عِلاقةَ من فوقها ولا دِعامة من تحتها، وهو إما حالٌ من الضمير المستتر في مسخّرات أو من الطير وإما مستأنف { إِنَّ فِى ذَلِكَ } الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها خِلْقةً تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحةً خفيفة وأذناباً كذلك وجعل أجسادها من الخِفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابَها لا يطيق ثقلها يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخرق ما بـين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبـير { لآيَاتٍ } ظاهرة { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي من شأنهم أن يؤمنوا وإنما خص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به.

{ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم } معطوف على ما مر وتقديم لكم على ما سيأتي من المجرور والمنصوب لما مر من الإيذان من أول الأمر بأنه لمصلحتهم ومنفعتهم لتشويق النفسِ إلى وروده، وقولُه تعالى: { مِن بُيُوتِكُمْ } أي المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدَر تبـيـينُ ذلك المجعول المبْهمِ في الجملة وتأكيدٌ لما سبق من التشويق { سَكَناً } فَعَلٌ بمعنى مفعول أي موضعاً تسكنون فيه وقت إقامتِكم أو تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه، أي جعل بعضَ بـيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به { وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ ٱلأَنْعَـٰمِ بُيُوتًا } أي بـيوتاً أُخَرَ مغايرةً لبـيوتكم المعهودةِ هي الخيامُ والقِباب والأخبـية والفساطيط.

{ تَسْتَخِفُّونَهَا } تجدونها خفيفةً سهلةَ المأخذ { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } وقت تَرحالِكم في النقض والحمل والنقل، وقرىء بفتح العين { وَيَوْمَ إِقَـٰمَتِكُمْ } وقت نزولِكم في الضرب والبناء { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا } عطفٌ على قوله تعالى: { مّن جُلُودِ } والضمائر للأنعام على وجه التنويع، أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبارِ الإبل وأشعار المعْزِ { أَثَاثاً } أي متاعَ البـيت وأصلُه الكثرةُ والاجتماعُ ومنه شعرٌ أثيثٌ { وَمَتَـٰعاً } أي شيئاً يُتمتّع به بفنون التمتع { إِلَىٰ حِينٍ } إلى أن تقضوا منه أوطارَكم أو إلى أن يبلىٰ ويفنى فإنه في معرض البِلىٰ والفناء، وقيل: إلى أن تموتوا، والكلام في ترتيب المفاعيل مثلُ ما مر من قبل.