الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ } * { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } * { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }

{ يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ } بـيانٌ لتحتم التوحيدِ حسبما نُبّه عليه تنبـيهاً إجمالياً ببـيان تقدّس جنابِ الكبرياءِ وتعاليه عن أن يحوم حوله شائبةُ أن يشاركه شيءٌ في شيء، وإيذانٌ بأنه دينٌ أجمع عليه جمهورُ الأنبـياءِ عليهم الصلاة والسلام وأُمروا بدعوة الناسِ إليه مع الإشارة إلى سر البعثةِ والتشريعِ وكيفية إلقاءِ الوحي، والتنبـيهِ على طريق علمِ الرسول عليه الصلاة والسلام بإتيان ما أوعدهم به وباقترابه إزاحةً لاستبعادهم اختصاصَه عليه الصلاة والسلام بذلك، وإظهاراً لبُطلان رأيهم في الاستعجال والتكذيب، وإيثارُ صيغةِ الاستقبال للإشعار بأن ذلك عادةٌ مستمرةٌ له سبحانه، والمرادُ بالملائكة إما جبريلُ عليه السلام، قال الواحدي: يسمَّى الواحدُ بالجمع إذا كان رئيساً أو هو ومَنْ معه من حفَظَة الوحي بأمر الله تعالى، وقرىء يُنْزِل من الإنزال وتَنَزَّلُ بحذف إحدى التاءين وعلى صيغة المبني للمفعول من التنزيل { بِٱلْرُّوحِ } أي بالوحي الذي من جملته القرآنُ على نهج الاستعارةِ، فإنه يحيـي القلوبَ الميتة بالجهل، أو يقوم في الدين مقامَ الروح في الجسد، والباء متعلقةٌ بالفعل أو بما هو حالٌ من مفعوله أي ملتبسين بالروح { مِنْ أَمْرِهِ } بـيان للروح الذي أريد به الوحي، فإنه أمرٌ بالخير أو حال منه أي حالَ كونِه ناشئاً ومبتدأً منه، أو صفةٌ له على رأي من جوّز حذفَ الموصول مع بعضِ صلته أي بالروح الكائن من أمره الناشىءِ منه، أو متعلقٌ بـينزّل ومِنْ للسببـية كالباء مثلُ (ما) في قوله تعالى:مّمَّا خَطِيئَـٰتِهِمْ } [نوح، الآية 25] أي ينزلهم بأمره { عَلَىٰ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي ينزِّلَهم به عليهم لاختصاصهم بصفات تؤهّلهم لذلك { أَنْ أَنْذِرُواْ } بدلٌ من الروح، أي ينزّلهم ملتبسين بأن أنذِروا أي بهذا القول، والمخاطَبون به الأنبـياءُ الذين نزلت الملائكةُ عليهم، والآمرُ هو الله سبحانه والملائكةُ نَقَلةٌ للأمر كما يُشعر به الباء في المبدَل منه، و(أنْ) إما مخففةٌ من أنّ وضميرُ الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ، أي ينزلهم ملتبسين بأن الشأنَ أقول لكم: أنذِروا، أو مفسّرةٌ على أن تنزيلَ الملائكة بالوحي فيه معنى القولِ، كأنه قيل: يقول بواسطة الملائكةِ لمن يشاء من عباده: أنذروا فلا محل لها من الإعراب، أو مصدريةٌ لجواز كون صلتِها إنشائيةً كما في قوله تعالى:وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ } [يونس، الآية 105] حسبما ذكر في أوائل سورة هودٍ فمحلُّها الجرُّ على البدلية أيضاً، والإنذارُ الإعلام خلا أنه مختصٌّ بإعلام المحذورِ من نذر بالشيء إذا علمه فحذِرَه، وأنذره بالأمر إنذاراً أي أعلمه وحذره وخوفه في إبلاغه كذا في القاموس أي أعلِموا الناس { أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ } فالضمير للشأن، ومدارُ وضعِه موضعَه ادعاءُ شهرتِه المغنيةِ عن التصريح به، وفائدةُ تصديرِ الجملة به الإيذانُ من أول الأمر بفخامة مضمونِها مع ما فيه من زيادة تقريرٍ له في الذهن، فإن الضميرَ لا يفهم منه ابتداءً إلا شأنٌ مبهمٌ له خطر، فيبقى الذهنُ مترقباً لما يعقُبه مترقباً فيتمكن لديه عند وروده فضلُ تمكن، كأنه قيل: أنذروا أن الشأنَ الخطير هذا، وإنباءُ مضمونِه عن المحذور ليس لذاته بل من حيث اتصافُ المنذَرين بما يضادُّه من الإشراك وذلك كافٍ في كون إعلامِه إنذاراً، وقوله سبحانه: { فَٱتَّقُونِ } خطابٌ للمستعجِلين على طريقة الالتفاتِ، والفاءُ فصيحةٌ أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادتِه تعالى بتنزيل الملائكةِ على الأنبـياء عليهم السلام وأمرِهم بأن ينذِروا الناسِ أنه لا شريك له في الألوهية، فاتقون في الإخلال بمضمونه ومباشرةِ ما ينافيه من الإشراك وفروعِه التي من جملتها الاستعجالُ والاستهزاءُ.

السابقالتالي
2