{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ } تذكيرٌ إجمالي لنعمه تعالى بعد تعدادِ طائفة منها، وكان الظاهرُ إيرادَه عقيبَها تكملةً لها على طريقة قوله تعالى:{ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 8] ولعل فصلَ ما بـينهما بقوله تعالى:{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [النحل، الآية 17] للمبادرة إلى إلزام الحجةِ وإلقامِ الحجر إثرَ تفصيلِ ما فُصل من الأفاعيل التي هي أدلةُ الوحدانية مع ما فيه من سر ستقف عليه إن شاء الله، ودَلالتُها عليها وإن لم تكن مقصورةً على حيثية الخلق ضرورةَ ظهور دلالتِها عليها من حيثية الإنعام أيضاً لكنها حيث كانت مستتبعاتِ الحيثيةِ الأولى، استُغنيَ عن التصريح بها ثم بُـين حالها بطريق الإجمال أي إن تعدوا نعمته الفائضةَ عليكم مما ذكر وما لم يذكر حسبما يُعرب عنه قوله تعالى:{ هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة، الآية 29] { لاَ تُحْصُوهَا } أي لا تطيقوا حصرَها وضبطَ عددِها ولو إجمالاً، فضلاً عن القيام بشكرها وقد خرجنا عن عُهدة تحقيقه في سورة إبراهيمَ بفضل الله سبحانه { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ } حيث يستُر ما فرَط منكم من كفرانها والإخلالِ بالقيام بحقوقها، ولا يعاجلُكم بالعقوبة على ذلك { رَّحِيمٌ } حيث يُفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحِرمان بما تأتون وتذرون من أصناف الكفرِ التي من جملتها عدمُ الفرق بـين الخالقِ وغيرِه، وكلٌّ من ذلك نعمةٌ وأيُّما نعمة، فالجملة تعليلٌ للحكم بعدم الإحصاءِ وتقديمُ وصفِ المغفرة على نعت الرحمةِ لتقدم التخلية على التحلية. { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ } تُضمرونه من العقائد والأعمال { وَمَا تُعْلِنُونَ } أي تظهرونه منهما، وحُذف العائد لمراعاة الفواصلِ أي يستوي بالنسبة إلى علمه المحيطِ سرُّكم وعلنُكم، وفيه من الوعيد والدِلالة على اختصاصه سبحانه بنعوت الإلٰهية ما لا يخفى، وتقديمُ السرِّ على العلن لما ذكرناه في سورة البقرة وسورة هودٍ من تحقيق المساواة بـين عِلْميه المتعلِّقَين بهما على أبلغ وجهٍ كأن عِلمَه تعالى بالسرّ أقدمُ منه بالعلن، أو لأن كلَّ شيء يعلن فهو قبل ذلك مضمرٌ في القلب، فتعلّقُ علمه تعالى بحالته الأولى أقدمُ من تعلقه بحالته الثانية. { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ } شروع في تحقيق كونِ الأصنام بمعزل من استحقاق العبادةِ وتوضيحُه بحيث لا يبقى فيه شائبةُ ريب بتعديد أوصافِها وأحوالِها المنافية لذلك منافاةً ظاهرةً، وتلك الأحوالُ وإن كانت غنيةً عن البـيان لكنها شُرحت للتنبـيه على كمال حماقةِ عبدَتِها وأنهم لا يعرفون ذلك إلا بالتصريح، أي والآلهةُ الذين يعبدهم الكفار { مِن دُونِ ٱللَّهِ } سبحانه، وقرىء على صيغة المبني للمفعول وعلى الخطاب { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا } من الأشياء أصلاً أي ليس من شأنهم ذلك، ولما لم يكن بـين نفي الخالقية وبـين المخلوقية تلازمٌ بحسب المفهومِ وإن تلازما في الصدق أُثبت لهم ذلك صريحاً فقيل: { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي شأنُهم ومقتضىٰ ذاتِهم المخلوقيةُ لأنها ذواتٌ ممكنةٌ مفتقرةٌ في ماهياتها ووجوداتها إلى الموجد، وبناء الفعل للمفعول لتحقيق التضادّ والمقابلة بـين ما أثبت لهم وبـين ما نُفي عنهم من وصفي المخلوقية والخالقية، وللإيذان بعدم الافتقار إلى بـيان الفاعلِ لظهور اختصاصِ الفعل بفاعله جل جلاله، ويجوز أن يُجعل الخلقُ الثاني عبارةً عن النحت والتصوير رعايةً للمشاكلة بـينه وبـين الأول ومبالغةً في كونهم مصنوعين لعبدتهم وأعجز عنهم وإيذاناً بكمال ركاكةِ عقولهم حيث أشركوا بخالقهم مخلوقَهم، وأما جعلُ الأول أيضاً عبارةً عن ذلك كما فعل فلا وجه له، إذ القدرةُ على مثل ذلك الخلقِ ليست مما يدور عليه استحقاقُ العبادة أصلاً، ولِما أن إثباتَ المخلوقية لهم غيرُ مستدعٍ لنفي الحياة عنهم لِما أن بعض المخلوقين أحياءٌ صرح بذلك فقيل: { أَمْوَاتٌ } وهو خبرٌ ثان للموصول لا للضمير كما قيل، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ.