الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

{ وَهُوَ ٱلَّذِى سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ } شروعٌ في تعداد النعمِ المتعلقة بالبحر إثرَ تفصيل النعمِ المتعلقة بالبر حيواناً ونباتاً، أي جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به للركوب والغَوْص والاصطياد { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا } هو السمك، والتعبـيرُ عنه باللحم مع كونه حيواناً للتلويح بانحصار الانتفاعِ به في الأكل، ووصفُه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبـيهِ على وجوب المسارعةِ إلى أكله كيلا يتسارع إليه الفسادُ كما ينبىء عنه جعلُ البحر مبتدأَ أكلِه، وللإيذان بكمال قدرتِه تعالى في خلقه عذباً طرياً في ماء زعاق، ومن إطلاق اللحمِ عليه ذهب مالكٌ والثوري أن مَنْ حلف لا يأكلُ اللحم حنِث بأكله، والجوابُ أن مبنى الأيمان العُرفُ، ولا ريب في أنه لا يُفهم من اللحم عند الإطلاق، ولذلك لو أمر خادمه بشراء اللحمِ فجاء بالسمك لم يكن ممتثلاً بالأمر، ألا يرى إلى أن الله تعالى سمّى الكافرَ دابة حيث قال:إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الأنفال، الآية 55] ولا يحنَث بركوبه من حلَف لا يركب دابة { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً } كاللؤلؤ والمَرْجان { تَلْبَسُونَهَا } عبر في مقام الامتنان عن لُبس نسائِهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لُبسِهن لأجلهم { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ } السفن { مَوَاخِرَ فِيهِ } جواريَ فيه مُقبلةً ومدبرة ومعترضة بريح واحدة تشقه بحَيزومها، من المخْر وهو شقُّ الماء، وقيل: هو صوتُ جَرْي الفلك { وَلِتَبْتَغُواْ } عطف على تستخرجوا وما عُطف هو عليه، وما بـينهما اعتراضٌ لتمهيد مبادي الابتغاءِ ودفعِ توهم كونِه باستخراج الحِلية، أو على علة محذوفة أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، ذكره ابن الأنباري أو متعلقة بفعل محذوفٍ أي وفعَل ذلك لتبتغوا { مِن فَضْلِهِ } من سَعة رزقِه بركوبها للتجارة { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تعرِفون حقوقَ نعمِه الجليلةِ فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد، ولعل تخصيصَ هذه النعمةِ بالتعقيب بالشكر من حيث إن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلةٍ في مدة قليلة من غير مزاولةِ أسبابِ السفر، بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالكِ وعدمُ توسيط الفوزِ بالمطلوب بـين الابتغاء والشكر للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معاً.

{ وَأَلْقَىٰ فِى ٱلأَرْضِ رَوَاسِىَ } أي جبالاً ثوابتَ، وقد مر تحقيقُه في أول سورة الرعد { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } كراهةَ أن تميل بكم وتضطربَ، أو لئلا تميدَ بكم فإن الأرضَ قبل أن تُخلقَ فيها الجبالُ كانت كرةً خفيفةً بسيطةَ الطبع، وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك أو تتحركَ بأدنى سبب محرِّك، فلما خُلقت الجبال تفاوتت حافّاتُها وتوجهت الجبالُ بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد، وقيل: لما خلق الله تعالى الأرض جعلت تمورُ فقالت الملائكة: ما هي بمقر أحدٍ على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال { وَأَنْهَـٰراً } أي وجعل فيه أنهاراً لأن في ألقى معنى الجعل { وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } بها إلى مقاصدكم.