الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } * { هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } * { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

{ وَٱلْخَيْلَ } هو اسمُ جنس للفرس لا واحد له من لفظه، كالإبل وهو عطفٌ على الأنعام أي خلق الخيل { وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا } تعليلٌ بمعظم منافعها وإلا فالانتفاعُ بها بالحمل أيضاً مما لا ريب في تحققه { وَزِينَة } عطفٌ على محل لتركبوها، وتجريدُه عن اللام لكونه فعلاً لفاعل الفعل المعلل دون الأولِ، وتأخيرُه لكون الركوبِ أهمَّ منه، أو مصدرٌ لفعل محذوفٍ، أي وتتزيّنوا بها زينةً، وقرىء بغير واو أي خلقها زينةً لتركبوها، ويجوز أن يكون مصدراً واقعاً موقعَ الحال من فاعل تركبوها أو مفعولِه أي متزيّنين بها { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي يخلق في الدنيا غيرَ ما عُدد من أصناف النعم فيكم ولكم ما لا تعلمون كنهَه وكيفيةَ خلقِه، فالعدولُ إلى صيغة الاستقبال للدِلالة على الاستمرار والتجددِ أو لاستحضار الصورة، أو يخلق لكم في الجنة غيرَ ما ذكر من النعم الدنيوية ما لا تعلمون أي ما ليس من شأنكم أن تعلموه، وهو ما أشير إليه بقوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله تعالى: " أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمِعت ولا خطَر على قلب بشر " ويجوز أن يكون هذا إخباراً بأنه سبحانه يخلق من الخلائق ما لا علمَ لنا به دَلالةً على قدرته الباهرة الموجبةِ للتوحيد كنعمته الباطنة والظاهرة.

عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عن يمين العرش نهراً من نور مثلَ السمواتِ السبع والأرضين السبع والبحارِ السبعة، يدخل فيه جبريلُ عليه السلام كل سَحَر فيغتسل فيزداد نوراً إلى نور وجمالاً إلى جمال وعِظماً إلى عظم، ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألفَ ملَك، فيدخل منهم كل يوم سبعون ألفَ ملكٍ البـيتَ المعمور وسبعون ألف ملك الكعبة لا يعودون إليه إلا يوم القيامة.

{ وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } القصدُ مصدر بمعنى الفاعل، يقال: سبـيلٌ قصْدٌ وقاصدٌ، أي مستقيم على طريقة الاستعارة أو على نهج إسنادِ حال سالكِه إليه، كأنه يقصِد الوجهَ الذي يؤمه السالكُ لا يعدِل عنه، أي حقٌّ عليه سبحانه وتعالى بموجب رحمته ووعدِه المحتوم بـيانُ الطريق المستقيمِ الموصلِ لمن يسلكه إلى الحق الذي هو التوحيدُ بنصب الأدلةِ وإرسالِ الرسل وإنزال الكتبِ لدعوة الناس إليه، أو مصدرٌ بمعنى الإقامة والتعديل كذا قاله أبو البقاء، أي عليه عز وجل تقويمُها وتعديلها أي جعلُها بحيث يصل سالكُها إلى الحق، لكن لا بعد ما كانت في نفسها منحرفةً عنه بل إبداعُها ابتداءً كذلك على نهج قوله: سبحان من صغّر البعوضَ وكبّر الفيل، وحقيقتُه راجعةٌ إلى ما ذكر من نصب الأدلةِ، وقد فعَل ذلك حيث أبدع هذه البدائعَ التي كلُّ واحد منها لاحبٌّ يُهتدىٰ بمناره وعلَمٌ يُستضاء بناره، وأَرسل رسلاً مبشرين ومنذرين وأَنزل عليهم كتباً من جملتها هذا الوحيُ الناطقُ بحقيقة الحقِّ الفاحصِ عن كل ما جلّ من الأسرار ودقّ، الهادي إلى سبـيل الاستدلال بتلك الأدلةِ المفضية إلى معالم الهدى، المنْجية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردىٰ، ألا يُرى كيف بـيّن أولاً تنزُّهَ جنابِ الكبرياء وتعالِيَه بحسب الذات عن أن يحوم حوله شائبةُ توهمِ الإشراك، ثم أوضح سرَّ إلقاءِ الوحي على الأنبـياء عليهم الصلاة والسلام وكيفيةَ أمرِهم بإنذار الناس ودعوتِهم إلى التوحيد ونهيِهم عن الإشراك، ثم كرّ على بـيان تعاليه عن ذلك بحسب الأفعالِ مرشداً إلى طريقة الاستدلالِ فبدأ بفعله المتعلق بمحيط العالم الجُسماني ومركزِه بقوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4