الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } * { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } * { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ }

{ وَأتَيْنَـٰكَ بِٱلْحَقّ } أي باليقين الذي لا مجال فيه للامتراء والشك وهو عذابُهم، عبر عنه بذلك تنصيصاً على نفي الامتراءِ عنه، أو المرادُ بالحق الإخبارُ بمجيء العذابِ المذكور، وقوله تعالى: { وِإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ } تأكيدٌ له، أي أتيناك فيما قلنا بالخير الحقِّ أي المطابق للواقعِ، وإنا لصادقون في ذلك الخبرِ أو في كل كلام فيكون كالدليل على صدقهم فيه، وعلى الأول تأكيدٌ إثرَ تأكيدٍ.

وقوله تعالى: { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } شروعٌ في ترتيب مبادي النجاةِ، أي اذهبْ بهم في الليل، وقرىء بالوصل وكلاهما من السُّرىٰ وهو السيرُ في الليل، وقرىء فسِرْ من السير { بِقِطْعٍ مّنَ ٱلَّيْلِ } بطائفة منه أو من آخره قال: [الخفيف]
افتحي الباب وانظُري في النجوم   كم علينا من قِطْع ليلٍ بهيم
وقيل: هو بعد ما مضى منه شيءٌ صالح { وَٱتَّبِعْ أَدْبَـٰرَهُمْ } وكن على أثرهم تذودُهم وتسرع بهم وتطّلع على أحوالهم، ولعل إيثارَ الاتباعِ على السَّوْق مع أنه المقصودُ بالأمر للمبالغة في ذلك، إذ السَّوْقُ ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزَمه عادةً الغفلةُ عن حال المتأخر، والالتفاتُ المنهيُّ عنه بقوله تعالى: { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ } أي منك ومنهم { أَحَدٌ } فيرى ما وراءه من الهول فلا يطيقه، أو يصيبه ما أصابهم، أو ولا ينصرفْ منكم أحدٌ ولا يتخلفْ لغرض فيصيبه العذاب، وقيل: نُهوا عن ذلك ليوطنوا أنفسهم على المهاجرة، أو هو نهي عن ربط القلب بما خلّفوه، أو هو للإسراع في السير فإن الملتفتَ قلما يخلو عن أدنى وقفة، وعدمُ ذكر استثناء المرأةِ من الإسراء والالتفات لا يستدعي عدم وقوعِه، فإن ذلك لما عرفت مراراً للاكتفاء بما ذكر في مواضعَ أخَرَ { وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } إلى حيث أمركم الله تعالى بالمُضيّ إليه وهو الشام أو مصر، وحذفُ الصلتين على الاتساع المشهور، وإيثارُ المضيِّ إلى ما ذكر على الوصول إليه واللُّحوق به للإيذان بأهمية النجاةِ ولمراعاة المناسبةِ بـينه وبـين ما سلف من الغابرين.

{ وَقَضَيْنَا } أي أوحينا { إِلَيْهِ } مقْضيًّا ولذلك عُدِّيَ بإلى { ذَلِكَ ٱلأمْرَ } مبهمٌ يفسره { أَنَّ دَابِرَ هَـؤُلآْء مَقْطُوعٌ } على أنه بدلٌ منه، وإيثار اسم الإشارة على الضمير للدلالة على اتصافهم بصفاتهم القبـيحةِ التي هي مدارُ ثبوت الحكم، أي دابرَ هؤلاء المجرمين، وإيرادُ صيغة المفعول بدلَ صيغة المضارع لكونها أدخلَ في الدلالة على الوقوعِ، وفي لفظ القضاءِ والتعبـيرِ عن العذاب بالأمر والإشارةِ إليه بذلك وتأخيرِه عن الجار والمجرور وإبهامِه أولاً ثم تفسيره ثانياً ـ من الدلالة على فخامة الأمر وفظاعتِه ـ ما لا يخفى. وقرىء بالكسر على الاستئناف، والمعنى أنهم يُستأصَلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحدٌ { مُّصْبِحِينَ } داخِلين في الصُّبح، وهو حال من هؤلاء أو من الضمير في مقطوعٌ وجمعه للحمل على المعنى فإن دابر هؤلاء بمعنى مدبري هؤلاء.