الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } * { قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } * { وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ } * { قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ }

{ قَالَ } أي ابليس وهو أيضاً استئناف مبنى على السؤال الذي ينساق اليه الكلام { لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ } اللام لتأكيد النفي أي ينافي حالي ولا يستقيم مني لأني مخلوق من أشرف العناصر وأعلاها أن اسجد { لِبَشَرٍ } أي جسم كثيف { خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } اقتصر ههنا على الاشارة الاجمالية الى ادعاء الخيرية وشرف المادة اكتفاء بما صرح به حين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ولم يكتف اللعين بمجرد ذكر كونه عليه الصلاة والسلام من التراب الذي هو أخس العناصر وأسفلها بل تعرض لكونه مخلوقاً منه في أخس أحواله من كونه طينا متغيرا وقد اكتُفى في سورة الأعراف وسورة ص بما حكى عنه ههنا فاقتصر على حكاية تعرضه لخلقه عليه الصلاة والسلام من طين وكذا في سورة بنى اسرائيل حيث قيل { أأسجُد لمن خلقت طيناً } وفي جوابه دليل على أن قوله تعالى { ما لك } ليس استفسارا عن الغرض بل هو استفسارٌ عن السبب، وفي عدوله عن تطبيق جوابِه على السؤال رَوْمٌ للتفصّي عن المناقشة وأنى له ذلك كأنه قال لم أمتنع عن امتثال الأمر ولا عن الانتظام في سلك الملائكة بل عما لا يليق بشأنى من الخضوع للمفضول ولقد جرى خذله الله تعالى على سنن قياس عقيم وزل عنه أن ما يدور عليه فلك الفضل والكمال هو التحلي بالمعارف الربانية والتخلي عن الملكات الردية التي أقبحها التكبر والاستعصاء على أمر رب العالمين جلا جلاله.

{ قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا } أي من زُمرة الملائكةِ المعزّزين لا من السماء، فإن وسوسته لآدمَ عليه الصلاة والسلام في الجنة إنما كانت بعد هذا الطرد، وقوله تعالى:فَٱهْبِطْ مِنْهَا } [الأعراف: 13] ليس نصًّا في ذلك، فإن الخروجَ من بـين الملإ الأعلى هبوطٌ وأيُّ هبوط، أو من الجنة على أن وسوستَه كانت بطريق النداءِ من بابها كما رُوي عن الحسن البصْري، أو بطريق المشافهة بعد أن احتال في دخولها وتوسّل إليه بالحيّة كما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولا ينافي هذا طردَه على رؤوس الأشهاد لما يقتضيه من الحِكَم البالغة { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } مطرودٌ من كل خير وكرامةٍ، فإن من يُطرَدْ يُرجَمْ بالحجارة، أو شيطان يُرجَمُ بالشهب وهو وعيدٌ يتضمن الجوابَ عن شبهته، فإن مَن عارض النصَّ بالقياس فهو رجيم ملعون.

{ وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ } الإبعادَ عن الرحمة، وحيث كان ذلك من جهة الله سبحانه وإن كان جارياً على ألسنة العبادِ، قيل: في سورة ص { وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى } { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدّينِ } إلى يوم الجزاء والعقوبةِ، وفيه إشعارٌ بتأخير عقابِه وجزائِه إليه، وأن اللعنة مع كمال فظاعتِها ليست جزاءً لفعله وإنما يتحقق ذلك يومئذ، وفيه من التهويل ما لا يوصف، وجعلُ ذلك أقصى أمدِ اللعنة ليس لأنها تنقطع هنالك، بل لأنه عند ذلك يعذَّب بما يَنسى به اللعنة من أفانين العذابِ، فتصير هي كالزائل.

السابقالتالي
2