الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ } * { وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } * { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ }

{ إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ } محلُّه النصبُ على الاستثناء المتصل إنْ فسّر الحِفظُ بمنع الشياطين عن التعرّضِ لها على الإطلاق والوقوفِ على ما فيها في الجملة، أو المنقطعِ إن فُسر ذلك بالمنع عن دخولها والتصرف فيها. عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات، فلما وُلد عيسى عليه السلام مُنعوا من ثلاث سموات، ولما ولد النبـي صلى الله عليه وسلم مُنِعوا من السموات كلِّها»، واستراقُ السمعِ اختلاسُه سرًّا، شُبّه به خَطفتُهم اليسيرةُ من قُطّان السمواتِ بما بـينهم من المناسبة في الجوهر، أو بالاستدلال من الأوضاع { فَأَتْبَعَهُ } أي تبعه ولحِقه { شِهَابٌ } لهبٌ محروقٌ وهو شعلةُ نارٍ ساطعةٌ، وقد يطلق على الكواكب والسِّنان لما فيهما من البريق { مُّبِينٌ } ظاهرٌ أمرُه للمبصرين. قال معمر: قلت لابن شهاب الزهري: أكان يرمىٰ بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم، وإن النجم ينقضّ ويُرمىٰ به الشيطانُ فيقتلُه أو يخبِلُه لئلا يعود إلى استراق السمع، ثم يعود إلى مكانه، قال: أفرأيت قوله تعالى:وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـٰعِدَ } [الجن، الآية 9]، قال: غُلّظت وشُدّد أمرُها حين بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن قتيبة: إن الرجمَ كان قبل مبعثِه عليه الصلاة والسلام، ولكن لم يكن في شدة الحِراسة كما بعدَ مبعثِه عليه الصلاة والسلام، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن الشياطينَ يركَبُ بعضُهم بعضاً إلى السماء الدنيا يسترقون السمعَ من الملائكة، فيُرمَون بالكواكب فلا يخطِىء أبداً، فمنهم من يُحرق وجهُه وجنبُه ويدُه حيث يشاء الله تعالى، ومنهم من يخبِلُه فيصير غُولاً فيُضل الناس في البوادي. قال القرطبـي: اختلفوا في أن الشهاب هل يقتُل أم لا؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: يجرَح ويحرِق ويخبِلُ ولا يقتُل، وقال الحسن وطائفةٌ: يقتل، قال: والأول أصح.

{ وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَـٰهَا } بسطناها، وهو بالنصب على الحذف على شريطة التفسير، ولم يُقرأ بالرفع لرجحان النصب للعطف على الجملة الفعلية، أعني قوله تعالى: { وَلَقَدْ جَعَلْنَا } الخ، وليوافِقَ ما بعده، أعني قوله تعالى: { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوٰسِيَ } أي جبالاً ثوابتَ، وقد مر بـيانه في أول الرعد { وَأَنبَتْنَا فِيهَا } أي في الأرض أو فيها وفي رواسيها { مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ } بميزان الحِكمة ذاتاً وصفةً ومقداراً، وقيل: ما يوزن من الذهب والفضة وغيرِهما أو من كل شيءٍ مستحسَنٍ مناسب، أو ما يوزن ويُقدَّر من أبواب النعمة.

{ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـٰيِشَ } ما تعيشون به من المطاعم والملابسِ وغيرِهما مما يتعلق به البقاءُ، وهي بـياء صريحة، وقرىء بالهمزة تشبـيهاً له بالشمائل { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرٰزِقِينَ } عطف على معايش أو على محل لكم، كأنه قيل: جعلنا لكم معايشَ وجعلنا لكم مَنْ لستم برازقيه من العِيال والمماليك والخدَم والدوابِّ وما أشبهها على طريقة التغليب، وذِكرُهم بهذا العنوان لرد حسبانُهم أنهم يَكْفون مؤناتِهم، ولتحقيق أن الله تعالى هو الذي يرزقهم وإياهم، أو وجعلنا لكم فيها معايشَ ولمن لستم له برازقين.