الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } * { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ } * { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ }

{ رَبّ ٱجْعَلْنِى مُقِيمَ ٱلصَّلوٰةِ } مثابراً عليها معدّلاً لها، وتوحيدُ ضمير المتكلم مع شمول دعوتِه لذريتِه أيضاً حيث قال: { وَمِن ذُرّيَتِى } أي بعضِهم من المذكورين ومن يسير سيرتَهما من أولادهما للإشعار بأنه المقتدىٰ في ذلك وذرّيتُه أتباعٌ له وإن ذكَرهم بطريق الاستطراد، لا كما في قوله:رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ } [ابراهيم: 37] الخ، فإن إسكانَه مع عدم تحققِه بلا ملابسةٍ لمن أسكنه إنما هو مذكورٌ بطريق التمهيد للدعاء الذي هو مخصوصٌ بذريته وإنما خَصّ هذا الدعاءَ ببعض ذريته لعلمه من جهة الله تعالى أن بعضاً منهم لا يكون مقيمَ الصلاة كقوله تعالى:رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة: 128] { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء } أي دعائيَ هذا المتعلِّقَ بجعلي وجعلِ بعض ذرّيتي مقيمي الصلاةِ ثابتين على ذلك مجتنبـين عن عبادة الأصنامِ، ولذلك جيء بضمير الجماعة.

{ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِى } أي ما فرَطَ مني من ترك الأَولى في باب الدين وغيرَ ذلك مما لا يسلم منه البشر { وَلِوَالِدَىَّ } وقرىء بالتوحيد ولأبوي، وهذا الاستغفارُ منه عليه السلام إنما كان قبل تبـيّن الأمرِ له عليه السلام، وقيل: أراد بوالديه آدمَ وحواءَ، وقيل: بشرط الإسلام ويردّه قوله تعالى:إِلاَّ قَوْلَ إِبْرٰهِيمَ } [الممتحنة: 4] الآية، وقد مر في سورة التوبة نوعُ تحقيقٍ للمقام سيأتي تمامه في سورة مريم بفضل الله تعالى { وَلِلْمُؤْمِنِينَ } كافة من ذريته وغيرهم وللإيذان باشتراك الكلِّ في الدعاء بالمغفرة جيء بضمير الجماعة { يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ } أي يثبُت ويتحقق محاسبةُ أعمالِ المكلفين على وجه العدل، استُعير له من ثبوت القائمِ على الرجل بالاستقامة، ومنه قامت الحربُ على ساق، والمرادُ تهويلُه، وقيل: أسند إليه قيامُ أهلِه مجازاً أو حذف المضاف كما في { وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } واعلم أن ما حكي عنه عليه السلام من الأدعية والأذكار وما يتعلق بها ليس بصادر عنه على الترتيب المَحْكيِّ ولا على وجه المعيّة، بل صدر عنه في أزمنة متفرّقةٍ حُكي مرتباً للدِلالة على سوء حال الكفرةِ بعد ظهور أمرِه في الملة وإرشادِ الناس إليها والتضرّعِ إلى الله تعالى لمصالحهم الدينية والدنيوية.

{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمرادُ تثبـيتُه على ما كان عليه من عدم حسبانه عز وجل كذلك، نحو قوله:وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } [الأنعام: 14] ونظائرِه، مع ما فيه من الإيذان بكونه واجبَ الاحتراز عنه في الغاية حتى نُهي عنه من لا يمكن تعاطيه، أو نهيُه عليه السلام عن حُسبانه تعالى تاركاً لعقابهم على طريقة العفو، والتعبـيرُ عنه بذلك للمبالغة في النهي والإيذان بأن ذلك الحسبانَ بمنزلة حسبانِه تعالى غافلاً عن أعمالهم إذ العلمُ بذلك مستوجبٌ لعقابهم لا محالة فتركُه لو كان لكان للغفلة عما يوجبه من أعمالهم الخبـيثة، وفيه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدٌ له أكيدٌ ووعيد للكفرة وسائرِ الظالمين شديدٌ، أو لكل أحدٍ ممن يستعجل عذابَهم أو يتوهّم إهمالَهم للجهل بصفاته تعالى والاغترارِ بإمهاله، وقيل: معناه لا تحسبنّه تعالى يعاملهم معاملةَ الغافل عما عمِلوا بل معاملةَ من يحافظ على أعمالهم ويجازيهم بذلك نقيراً وقِطْميراً، والمرادُ بالظالمين أهلُ مكةَ ممن عُدّت مساويهم من تبديل نعمةِ الله تعالى كفراً وإحلالِ قومهم دارَ البوار واتخاذِ الأندادِ كما يؤذن به التعرّضُ لحكمة التأخيرِ المنبىء عنه قوله تعالى:

السابقالتالي
2