الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ } * { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }

{ وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَائِبَينَ } يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالةً وخلافةً وإصلاحِهما لما نيط بهما صلاحُه من المكوّنات { وَسَخَّر لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلْنَّهارَ } يتعاقبان خِلْفةً لمنامكم ومعاشِكم ولعقد الثمار وإنضاجِها، ذكر سبحانه وتعالى أنواعَ النعم الفائضةِ عليهم وأبرز كلَّ واحدة منها في جملة مستقلةٍ تنويهاً لشأنها وتنبـيهاً على رفعة مكانِها وتنصيصاً على كون كل منها نعمةً جليلةً مستوجبةً للشكر، وفي التعبـير عن التصريف المتعلّق بما ذُكر من الفلك والأنهارِ والشمسِ والقمر والليل والنهار بالتسخير ـ من الإشعار بما فيها من صعوبة المأخذ وعزةِ المنال والدِلالة على عِظَم السلطان وشدّة المِحال ـ ما لا يخفى، وتأخيرُ تسخيرِ الشمس والقمرِ عن تسخير ما تقدمه من الأمور المعدودةِ مع ما بـينه وبـين خلقِ السموات من المناسبة الظاهرةِ لاستتباع ذكرِها لذكر الأرض المستدعي لذكر إنزالِ الماءِ منها إليها الموجبِ لذكر إخراجِ الرزقِ الذي من جملته ما يحصُل بواسطة الفَلَك والأنهار أو للتفادي عن توهم كون الكل أعني خلقَ السمواتِ والأرض وتسخيرَ الشمس والقمر نعمةً واحدةً كما مر في سورة البقرة.

{ وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أي أعطاكم بعضَ جميع ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئتُه التابعةُ للحكمة والمصلحة كقوله سبحانه:مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـٰجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ } [الإسراء: 18] أو آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ونيط به انتظامُ أحوالِكم على الوجه المقدّرِ فكأنكم سألتموه، أو كلَّ ما طلبتموه بلسان الاستعدادِ أو كلَّ ما سألتموه، على أن (من) للبـيان وكلمةُ كل للتكثير، كقولك: فلان يعلم كلَّ شيء وأتاه كلُّ الناس وعليه قوله عز وجل: { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء } وقيل: الأصلُ وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه فحُذف الثاني لِدلالة ما أُبقيَ على ما أُلقيَ، وقرىء بتنوين (كلِّ) على أن ما نافيه ومحل سألتموه النصبُ على الحالية أي آتاكم من كلَ غيرَ سائليه.

{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ } التي أنعم بها عليكم { لاَ تُحْصُوهَا } لا تُطيقوا بحصرها ولو إجمالاً فإنها غيرُ متناهيةٍ، وأصل الإحصاءِ أن الحاسبَ إذا بلغ عَقداً معيناً من عقود الأعدادِ وضع حصاةً ليحفظ بها، إيذانٌ بعدم بلوغِ مرتبةٍ معتدَ بها من مراتبها فضلاً عن بلوغ غايتِها، كيف لا وما من فرد من أفراد الناسِ وإن كان في أقصى مراتبِ الفقرِ والإفلاس مَمنوًّا بأصناف العنايا مبتلىً بأنواع الرزايا فهو بحيث لو تأملتَه ألفيتَه متقلّباً في نِعمَ لا تحدّ ومننٍ لا تحصى ولا تعدّ كأنه قد أعطيَ كلَّ ساعة وآنٍ من النعماء ما حواه حِيطةُ الإمكان، وإن كنت في ريب من ذلك فقدِّرْ أنه ملَك مِلكٌ أقطارَ العالم، ودانت له كافةُ الأمم، وأذعنت لطاعته السَّراةُ، وخضعت لهيبته رُقابُ العُتاة، وفاز بكل مرام، ونال كل منالٍ، وحاز جميع ما في الدنيا من أصناف الأموالِ من غير نِدّ يزاحمه، ولا شريك يساهمُه، بل قدِّرْ أن جميع ما فيها من حجر ومدَرٍ يواقيتُ غاليةٌ ونفائسُ دُررٍ، ثم قدِّر أنه قد وقع مِنْ فقْد مشروبٍ أو مطعوم في حالة بلغت نفسُه الحلقومَ، فهل يشتري وهو في تلك الحال بجميع مالِه من الملك والمال لُقمةً تنجّيه عن رِواه، أو شربةً ترويه من ظَماه، أم يختار الهلاك فتذهبَ الأموالُ والأملاك بغير بذل يبقى عليه ولا نفعٍ يعود إليه؟ كلا، بل يبذُل لذلك كلَّ ما تحويه اليدان كائناً ما كان وليس في صفقته شائبةُ الخُسران، فإذن تلك اللقمةُ والشَّرْبةُ خيرٌ مما في الدنيا بألف رتبةٍ مع أنهما في طرف الثمام ينالهما متى شاء من الليالي والأيام، أو قدّر أنه قد احتبس عليه النفَسُ فلا دخلَ منه ما خرَج ولا خرَج منه ما ولَج، والحينُ قد حان وأتاه الموتُ من كل مكان أما يعطي ذلك كلَّه بمقابلة نفس واحد بل يعطيه وهو لرأيه حامدٌ، فإذن هو خير من أموال الدنيا بجملتها ومطالبها برُمّتها مع أنه قد أبـيح له كل آنٍ من آنات الليالي والأيام حالَ اليقظة والمنام هذا من الظهور والجلاء بحيث لا يكاد يخفى على أحد من العقلاء، وإن رمت العثورَ على حقيقة الحقِّ والوقوفَ على كل ما جل من السرِّ ودق فاعلم أن الإنسانَ بمقتضى حقيقتِه الممكنةِ بمعزل عن استحقاق الوجودِ وما يتبعه من الكمالات اللائقةِ والملكاتِ الرائقةِ بحيث لو انقطع ما بـينه وبـين العنايةِ الإلٰهية من العلاقة لما استقر له القَرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم والبوار، ومهاوي الهلاك والدمار لكن يَفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدّس في كل زمان يمضي وكل آن يمرّ وينقضي من أنواع الفيوضِ المتعلقة بذاته ووجودِه وسائرِ صفاتِه الروحانيةِ والنفسانية والجُسمانية ما لا يحيط به نطاقُ التعبـير ولا يعلمه إلا العليم الخبـير، وتوضيحه أنه كما لا يستحق الوجودَ ابتداءً لا يستحقه بقاءً وإنما ذلك من جانب المبدأ الأول عز وجل، فكما لا يتصور وجودُه ابتداءً ما لم ينسدَّ عليه جميع أنحاءِ عدمِه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققِه بعلّته ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمه الطارىء لأن الاستمرار والدوامَ من خصائص الوجود الواجبـي.

السابقالتالي
2