الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } * { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } * { يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }

{ وَٱسْتَفْتَحُواْ } أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله تعالى:إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ ٱلْفَتْحُ } [الأنفال: 19] أو استحكموا وسألوه القضاءَ بـينهم من الفتاحة وهي الحكومةُ كقوله تعالى:رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقّ } [الأعراف: 89] فالضميرُ للرسل، وقيل: للفريقين فإنهم سألوا أن يُنصَر المحِقُّ ويهلَك المبطل، وهو معطوفٌ على أوحىٰ إليهم وقرىء بلفظ الأمرِ عطفاً على لنهلكن الظالمين، أي أوحىٰ إليهم ربهم لنُهلِكَنّ، وقال لهم: استفتِحوا { وَخَابَ } أي خسِر وهلك { كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } متّصفٍ بضد ما اتصف به المتقون، أي فنُصروا عنداستفتاحِهم وظفِروا بما سألوا وأفلحوا وخاب كلُّ جبارٍ عنيد، وهم قومُهم المعاندون فالخيبةُ بمعنى مطلقِ الحِرمان عن المطلوب، أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعُمون أنهم على الحق، أو استفتح الكفارُ على الرسل وخابوا ولم يُفلحوا، وإنما قيل: وخاب كلُّ جبار عنيد ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالتجبّر والعِناد لا أن بعضَهم ليسوا كذلك وأنه لم يُصبْهم الخيبةُ، أو استفتحوا جميعاً فنُصر الرسلُ وأُنجِز لهم الوعدُ وخاب كلّ عاتٍ متمردٍ، فالخيبةُ بمعنى الحرمان غِبَّ الطلب، وفي إسناد الخيبةِ إلى كل منهم ما لا يخفى من المبالغة.

{ مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ } أي بـين يديه فإنه مُرصَدٌ لها واقفٌ على شفيرها في الدنيا مبعوثٌ إليها في الآخرة، وقيل: من وراء حياتِه وحقيقتِه ما توارى عنك { وَيُسْقَىٰ } معطوف على مقدر جواباً عن سؤال سائلٍ، كأنه قيل: فماذا يكون إذن؟ فقيل: يلقى فيها ويُسقى { مِن مَّاء } مخصوصٍ لا كالمياه المعهودة { صَدِيدٍ } وهو قيحٌ أو دمٌ مختلط بمِدّة يسيل من الجرح، قال مجاهد وغيره: هو ما يسيل من أجساد أهلِ النار، وهو عطفُ بـيانٍ لما أُبهم أولاً ثم بُـيّن بالصديد تهويلاً لأمره وتخصيصُه بالذكر من بـين عذابِها يدور على أنه من أشدّ أنواعِه.

{ يَتَجَرَّعُهُ } قيل: هو صفةٌ لماءٍ أو حالٌ منه والأظهر أنه استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال، كأنه قيل: فماذا يفعل به؟ فقيل: يتجرعه، أي يتكلف جَرْعه مرة بعد أخرى لغلبة العطشِ واستيلاء الحرارة عليه { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي لا يقارب أن يسيغه فضلاً عن الإساغة بل يغَصّ به فيشربُه بعد اللتيا والتي جرعةً فيطول عذابُه تارةً بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالِ، فإن السَّوغَ انحدارُ الشراب في الحلق بسهولة وقَبولِ نفس، ونفيُه لا يوجب نفيَ ما ذكر جميعاً، وقيل: لا يكاد يدخُله في جوفه، وعبّر عنه بالإساغة لما أنها المعهودةُ في الأشربة وهو حالٌ من فاعل يتجرّعه أو من مفعوله أو منهما جميعاً { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ } أي أسبابُه من الشدائد { مّن كُلّ مَكَانٍ } ويُحيط به من جميع الجهات أو من كل مكان من جسده حتى من أصول شعرِه وإبهامِ رجله { وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ } أي والحالُ أنه ليس بميت كما هو الظاهرُ من مجيء أسبابِه لا سيما من جميع الجهاتِ حتى لا يتألمُ بما غشِيه من أصناف المُوبقات { وَمِن وَرَائِهِ } من بـين يديه { عَذَابٍ غَلِيظٍ } يستقبل كلَّ وقت عذاباً أشدَّ وأشق مما كان قبله، ففيه دفعُ ما يُتوهم من الخِفّة بحسب الاعتيادِ كما في عذاب الدنيا، وقيل: هو الخلودُ في النار، وقيل: هو حبسُ الأنفاس، وقيل: المرادُ بالاستفتاح والخيبةِ استسقاءُ أهلِ مكةَ في سِنيهم التي أرسلها الله تعالى عليهم بدعوته عليه الصلاة والسلام وخيبتهم في ذلك، وقد وعَد لهم بدلَ ذلك صديدَ أهل النار.