الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } * { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }

{ وَإِن تَعْجَبْ } يا محمد من شيء { فَعَجَبٌ } لا أعجبُ منه حقيقٌ بأن يُقصَرَ عليه التعجب { قَوْلُهُمْ } بعد مشاهدةِ ما عدد لك من الآيات الشاهدةِ بأنه تعالى على كل شيء قدير { أَءذَا كُنَّا تُرَابًا } على طريقة الاستفهامِ الإنكاريِّ المفيدِ لكمال الاستبعادِ والاستنكارِ، وهو في محل الرفعِ على البدلية من (قولهم) على أنه بمعنى المقول أو في محل النصبِ على المفعولية منه على أنه مصدرٌ فالعجبُ على الأول كلامُهم وعلى الثاني تكلّمُهم بذلك والعاملُ في (إذا) ما دل عليه قوله: { إِءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } وهو نُبعث أو نعاد، وتقديمُ الظرف لتقوية الإنكارِ بالبعث بتوجيهه إليه في حالة منافيةٍ له، وتكريرُ الهمزة في قولهم: أئنا لتأكيد الإنكارِ، وليس مدارُ إنكارهم كونَهم ثابتين في الخلق الجديد بالفعل عند كونِهم تراباً بل كونَهم بعريضة ذلك واستعدادِهم له، وفيه من الدَلالة على عتوّهم وتماديهم في النكير ما لا يخفى، وقيل: وإن تعجب من قولهم في إنكار البعثِ فعجبٌ قولُهم، والمآلُ وإن تعجبْ فقد تعجّبت في موضع التعجّبِ، وقيل: وإن تعجب من إنكارِهم البعثَ فعجبٌ قولُهم الدالُّ عليه فتأمل.

وقد جُوّز كونُ الخطاب لكل من يصلُح له أي إن تعجبْ يا من ينظُر في هذه الآياتِ من قدرة مَنْ هذه أفعالُه فازددْ تعجباً ممن ينكر مع هذه الدلائلِ قدرتَه تعالى على البعث وهو أهونُ من هذه، والأنسبُ بقوله: ويستعجلونك بالسيئة هو الأولُ وقوله تعالى: { فَعَجَبٌ } خبرٌ قُدّم على المبتدأ للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم ذاك أمراً عجيباً، ويجوز أن يكون مبتدأً لكونه موصوفاً بالوصف المقدر كما أشير إليه فالمعنى وإن تعجب فالعجب الذي لا عجب وراءه قولُهم هذا فاعجب منه، وعلى الأول وإن تعجب فقولُهم هذا عجبٌ لا عجبَ فوقه.

{ أُوْلَـٰئِكَ } مبتدأٌ والموصولُ خبرُه أي أولئك المنكرون لقدرته تعالى على البعث ريثما عاينوا ما فُصّل من الآيات الباهرةِ المُلْجئة لهم إلى الإيمان لو كانوا يبصرون { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } وتمادَوْا في ذلك فإن إنكارَهم لقدرته عز وجل كفرٌ به وأيُّ كفر { وَأُوْلـئِكَ } مبتدأ خبرُه قوله: { ٱلأَغْلَـٰلُ فِى أَعْنَـٰقِهِمْ } أي مقيّدون بقيود الضلال لا يُرجىٰ خلاصُهم أو مغلولون يوم القيامة { وَأُوْلـئِكَ } الموصوفون بما ذكر من الصفات { أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } لا ينفكوّن عنها، وتوسيطُ ضمير الفصلِ ليس لتخصيص الخلودِ بمنكري البعثِ خاصةً بل بالجمع المدلولِ عليه بقوله تعالى: { أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ }.

{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيّئَةِ } بالعقوبة التي أُنذِروها وذلك حين سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيَهم بالعذاب استهزاءً منهم بإنذاره { قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ } أي العافيةِ والإحسانِ إليهم بالإمهال { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلَـٰتُ } أي عقوباتُ أمثالِهم من المكذبـين فما لهم لا يعتبرون بها ولا يحترزون حلولَ مثلها بهم والجملة الحاليةُ لبـيان ركاكةِ رأيِهم في الاستعجال بطريق الاستهزاءِ أي يستعجلونك بها مستهزئين بإنذارك منكِرين لوقوع ما أنذرتَهم إياه والحالُ أنه قد مضت العقوباتُ النازلةُ على أمثالهم من المكذبـين والمستهزئين، والمُثْلة بوزن السُّمْرة العقوبةُ، سميت بها لما بـينها وبـين المعاقَب عليه من المماثلة ومنه المِثال للقِصاص، وقرىء المُثُلات بضمتين بإتباع الفاء العين، والمَثْلات بفتح الميم وسكون الثاء كما يقال: السَّمْرة، والمُثْلات بضم الميم وسكون الثاء تخفيف المُثُلات جمع مُثْلة كرُكبة ورُكْبات { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } عظيمةٍ { لّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } أنفسهم بالذنوب والمعاصي ومحلُّه النصبُ على الحالية أي ظالمين والعاملُ فيه المغفرة والمعنى إن ربك لغفورٌ للناس لا يعجّل لهم العقوبةَ وإن كانوا ظالمين بل يمهلهم بتأخيرها { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } يعاقب من يشاء منهم حين يشاء فتأخيرُ ما استعجلوه ليس للإهمال.

السابقالتالي
2