الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } * { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ }

{ ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ } أي يوسّعه { لِمَن يَشَاء } من عباده { وَيَقْدِرُ } أي يضيّقه على ما يشاء حسبما تقتضيه الحكمةُ من غير أن يكون لأحد مدخلٌ في ذلك ولا شعورٌ بحكمته فربما يبسُطه للكافر إملاءً واستدراجاً وربما يضّيقه على المؤمن زيادةً لأجره فلا يُغترَّ ببسطه للكافر كما لا يَقنط بقدره المؤمنُ { وَفَرِحُواْ } أي أهلُ مكة فرَحَ أشَرٍ وبطر، لا فرحَ سرورٍ بفضل الله تعالى { بـٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا } وما بُسط لهم فيها من نعيمها { وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا } وما يتبعها من النعيم { فِى ٱلاْخِرَةِ } أي في جنب نعيمِ الآخرة { إِلاَّ مَتَـٰعٌ } إلا شيءٌ نزْرٌ يُتمتع به كعُجالة الراكب وزادِ الراعي، والمعنى أنهم رضُوا بحظ الدنيا معرِضين عن نعيم الآخرةِ، والحالُ أن ما أشِروا به في جنب ما أعرضوا عنه شيءٌ قليل النفع سريعُ النفاد.

{ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي أهلُ مكة، وإيثارُ هذه الطريقة على الإضمار مع ظهور إرادتِهم عقيبَ ذكرِ فرحِهم بالحياة الدنيا لذمهم والتسجيلِ عليهم بالكفر فيما حُكي عنهم من قولهم: { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } فإن ذلك في أقصى مراتبِ المكابرةِ والعِناد كأن ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام من الآيات العظامِ الباهرةِ ليس بآية حتى اقترحوا ما تقتضيه الحِكمةُ من الآيات المحسوسةِ التي لا يبقىٰ لأحد بعد ذلك طاقةٌ بعدم القَبول ولذلك أُمر في الجواب بقوله تعالى: { قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء } إضلالَه مشيئةً تابعة للحكمة الداعيةِ إليها أي يخلُق فيه الضلال لصرفه اختيارَه إلى تحصيله ويدعُه منهمكاً فيه لعلمه بأنه لا ينجَع فيه اللطفُ ولا ينفعه الإرشاد، كمن كان على صفتكم في المكابرة والعِناد وشدةِ الشكيمةِ والغلوِّ في الفساد، فلا سبـيل له إلى الاهتداء ولو جاءتْه كلُّ آية { وَيَهْدِى إِلَيْهِ } أي إلى جنابه العليِّ الكبـير هدايةً موصِلةً إليه لا دَلالةً مطلقة على ما يوصِل إليه فإن ذلك غيرُ مختصٍ بالمهتدين، وفيه من تشريفهم ما لا يوصف { مَنْ أَنَابَ } أقبل إلى الحق وتأملَ في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحةِ، وحقيقةُ الإنابة الدخولُ في نوبة الخير، وإيثارُ إيرادِها في الصلة على إيراد المشيئةِ كما في الصلة الأولى لا للتنبـيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها والإشعارِ بما دعا إلى المشيئة الأولى من المكابرة، وفيه حث للكفرة على الأقلاع عما هم عليه من العتو والعِناد، وإيثارُ صيغةِ الماضي للإيماء إلى استدعاء الهدايةِ لسابقة الإنابة كما أن إيثارَ صيغةِ المضارعِ في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئةِ حسب استمرار مكابرتهم.